تعود ذاكرة الشاب علي فنّون (36 عاما) من قرية نحالين جنوب بيت لحم، إلى الوراء ليستذكر شريط مجزرة نحالين، التي وقعت في الثالث عشر من شهر نيسان/ ابريل من العام 1989، والتي أصيب خلالها بثلاث رصاصات أعاقته حركيا.
بمداعبة وبروح عالية يقول فنّون: بعد تناول السحور، رافقت والدي إلى المسجد لتأدية صلاة الفجر، كان هذا في السابع من رمضان، وفي نهاية الصلاة وقع إطلاق رصاص بغزارة في محيط المسجد، وبعد الانتهاء من العبادة خرج المصلون كل إلى وجهته، إما للمنزل أو إلى مكان عمله .
رصاص الاحتلال لم يرحم لا صغيرا ولا كبيرا، كان يطلق في كل صوب وحدب، ما أثار حالة من الذعر والخوف بين صفوف المواطنين... سرت إلى جانب والدي مسافة قصيرة قبل أن نفترق... بعدها بقليل أصبت برصاصة في رجلي، فواصلت السير قبل أن تصيبني الثانية في يدي، أضاف فنون.
وتابع: بعد أن أصبت برصاصتين ركضت اتجاه البيت، إلا أن الرصاصة الثالثة كانت القاتلة، حيث أقعدتني عن الحركة، فقد أصابتني في الحوض ودخلت من جهة اليسار وخرجت من اليمين... أتذكر بعدها أنني وقعت على الأرض فاقدا الوعي .
مجموعة من الشباب قاموا بحملي والسير بي لمسافة أكثر من نصف كيلو متر، وصولا إلى منطقة جبلية بعيدا عن تواجد جنود الاحتلال، ومن ثم نقلوني إلى مستشفى المقاصد بمدينة القدس، بواسطة سيارة خاصة مع مجموعة أخرى من المصابين والشهداء... هذا ما تم إبلاغي به بعد أن خرجت من المستشفى .
صمت قليلا ثم ابتسم وتوجه إلى السماء، وقال: الحمد لله على كل شيء، أنا استشهدت، ثم كتبت لي الحياة مجددا، كيف؟ عندما وصلت إلى المستشفى كنت في موت سريري، وتم الكشف علي والتأكيد على أنني قد فارقت الحياة، وتم لف جسدي بالقماش الأبيض إلى جانب الشهيدين فؤاد عوض وصبحي نجاجرة... والوجهة كانت إلى القرية لتشييع الجثامين .
كتب لي عمر جديد، فقد حضر أحد الأطباء وأجرى للشهداء الثلاثة فحصا، فاكتشف أنني على قيد الحياة، وأمر فورا بإدخالي إلى غرفة العمليات، وأجريت لي أربع عمليات جراحية، استمرت من الساعة السابعة صباحا وحتى الخامسة مساء. أزالوا خلالها كلية وبعض الأجزاء من الأمعاء.
وقال فنون: المعجزة في كل ذلك، أنني كنت أسمع ما يجري حولي من أحاديث جانبية بين الأطباء والممرضين، وقولهم إنني استشهدت، دون أن أتمكن من الحركة أو النطق.
آه آه.. المجزرة ذكراها أليمة... في يومها كنت أستعد للاحتفال بعيد ميلادي الـ14.. أتذكر أن والدتي نسجت لي 'بلوزة' كهدية العيد، لكني لم أحتفل ولم أستلم البلوزة، لأن معاناتي تواصلت لسنوات .
يتابع فنون ذكرياته: رحلة علاجي المريرة بدأت في مستشفى المقاصد بوضعي في غرفة العناية المكثفة بين الحياة والموت ولمدة شهرين، والحمد لله تحسنت صحتي ونقلت لإحدى الغرف، لكن هذا بعد أن أصبت بشلل نصفي، وبقيت خمسة أشهر أتلقى العلاج، بعدها تم تحويلي إلى الأردن للعلاج، والذي امتد عاما ونصف عام قبل السفر إلى يوغسلافيا والمكوث في إحدى مستشفياتها قرابة العامين، ومن ثم العودة إلى الأردن فرام الله وتحديدا إلى مركز "أبو ريا".
ويقول: رغم الإعاقة الحركية، إلا أنني لم أستكن... واصلت حياتي متحديا الظروف المحيطة بي... التحقت بأحد المراكز ودرست الحاسوب، ثم عملت بالتخصص، كما أنني تزوجت في العام 2006 ولدي طفلة .
مرّ 22 عاما على مجزرة نحالين الثانية، التي سقط فيها خمسة شهداء، إضافة إلى عشرات الإصابات المختلفة، التي خلّفت إعاقات، وأما المجزرة الأولى فكانت في العام 1954، حيث استشهد خلالها ستة مواطنين وعشرات الجرحى.
والشهداء الخمسة هم: رياض محمد غياظة، محمد حسن شكارنة، صبحي عطية سواد، فؤاد يوسف نجاجرة ووليد نجاجرة.
وقال إبراهيم غياظة أحد شهود العيان من القرية، إن التاريخ يعيد نفسه، مجازر متكررة واستفزازات ما قبل العام 1967، بدأها الاحتلال في العام 1954 من خلال مجزرة أوقعت ستة شهداء وعشرات الجرحى، وتكرر المشهد في العام 1989.
وتابع: الأحداث التي سبقت المجزرة كانت تشير إلى أن هناك أمورا مبيّتة للقرية، من خلال الاستفزازات اليومية لما يسمى حرس الحدود. حاولوا دخول القرية من عدة محاور، وتكرر المشهد يوميا بإيقاف الشباب، والتلفظ بألفاظ نابية بحق النساء والفتيات.
في الثالث عشر من ابريل/ نيسان دخل جيش الاحتلال النظامي برفقة جنود من حرس الحدود من أربعة محاور هي: الجهة الجنوبية من خلال قرية الجبعة، والغربية من منطقة عين فارس، والشرقية المسماة كيلو 17، والشمال من قرية حوسان .
توقف غياظة عن الحديث قليلا وتنهد، ثم قال: 'كانت قوة كبيرة.. عشرات الآليات ومئات الجنود، وأثناء تأدية صلاة الفجر بدأ الجنود بإطلاق الرصاص في كل الاتجاهات وصوب الجامع ومختلف المباني، فأصابوا الإنسان والحيوان والمباني ولم يتركوا شيئا في القرية، مؤكدا أن الجنود كانوا يعيدون العمال إلى القرية عند توجههم لأماكن عملهم قبل وقوع المجزرة.
وأضاف: بعد ذلك، تعالت الأصوات، وأخذ الجميع يكبر أكبر الله..الله أكبر، فخرج الصغير قبل الكبير للدفاع عن قريتهم، ولم يتوان جنود الاحتلال عن إطلاق الرصاص عشوائيا صوبهم، فأوقع ذلك خمسة شهداء من خيرة أبناء القرية، إضافة إلى أكثر من 100 جريح، مؤكدا أن جنود الاحتلال تعمدوا إطلاق الرصاص على كل شخص كان يحاول إسعاف المصابين. الحال استمر حتى التاسعة صباحا.
وأشار غياظة إلى أن مجزرة نحالين أوجدت شكلا من التضامن وتضامن القرى المحيطة بها، حيث اندلعت المواجهات فيها، سيما حوسان التي استشهد فيها الشهيد الخامس وليد نجاجرة، عندما أنزله جنود الاحتلال من سيارته العمومية وأطلقوا الرصاص عليه عن قرب .
عقب مجزرة نحالين كان هناك موقف تضامني كبير لم يشهد له مثيل في ذلك الوقت، فعلى مدار أكثر من سنة كاملة تقاطرت الوفود المختلفة ومن كل أنحاء الأرض الفلسطينية، وحتى من الخارج للتضامن مع أهالي القرية، ومن بينهم الشهيد فيصل الحسيني .
وأضاف غياظة: معاناة القرية لم تقف عن حد ذلك، بل قام جنود الاحتلال بعد مرور 43 يوما من المجزرة، بشن حملة اعتقالات طالت أكثر من 43 مواطنا.
وقال: أحاديث المواطنين التي تم تداولها قبل المجزرة بيومين، أفادت بأن رئيس وزراء (إسرائيل) في ذلك الوقت إسحق رابين، حضر إلى الجهة الجنوبية للقرية ووقف لفترة من الزمن ينظر إليها .
من جانبه، قال رئيس المجلس أسامه شكارنة،: مهما تحدثنا عن الأوضاع التي سبقت المجزرة وأثناءها، لا يمكن وصفها في قاموس الإجرام الإسرائيلي. قناصة اعتلوا بناية وسط القرية، وأخذوا في إطلاق الرصاص على كل شيء يتحرك، ما أوقع أربعة شهداء في منطقة الحاج عليان، جميعهم دفنوا في مقبرة حوسان، في حين دفن وليد في مقبرة نحالين.
وأضاف: جنود الاحتلال منعوا سيارات الإسعاف من الوصول وإسعاف المصابين. كانت حالة يرثى لها.
وتابع: 'نحالين، بموقعها الجغرافي الواقع وسط مستوطنات عتصيون وجبعوت ودانيال، كانت تشكل عقبة أمام التوسع الاستيطاني للاحتلال.
وأشار شكارنة إلى أن مجزرة نحالين لم تكن حدثا عابرا، بل مخططا لها، وكان يراد منها إرهاب وترويع سكان القرى الأخرى، بهدف قمع الانتفاضة.