المال السعودي والتحريض على الاسر
عبد الباري عطوان
تعود
القضية الفلسطينية الى الواجهة بقوة هذه الأيام بعد ان سلبت الثورات
العربية الأضواء محقة، والسبب ليس المجزرة التي ارتكبتها اسرائيل في قطاع
غزة يوم أمس، واستشهاد عشرة مقاومين من حركة الجهاد الاسلامي، وانما ايضاً
هذا التعاطف الشعبي السعودي، ومؤسسته الدينية غير الرسمية، خاصة قضية
الأسرى الفلسطينيين.
القصة بدأت عندما أعلن الشيخ عوض القرني ،الداعية
السعودي المعروف، رصد مبلغ مقداره مئة الف دولار من ماله الخاص مكافأة لمن
يأسر جنديا اسرائيليا لمبادلته بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال،
تيمنا ومحاكاة لصفقة التبادل الأخيرة، التي ادت الى اطلاق سراح اكثر من الف
معتقل فلسطيني مقابل تسليم الجندي الاسرائيلي غلعاد شليط.
الاسرائيليون
'محبو السلام'، او قطاع منهم، اعلنوا فوراً عن رصد مليون دولار مكافأة لمن
يقتل الشيخ القرني، وحثوا جهاز المخابرات الاسرائيلي 'الموساد' على قتله
بكل الطرق والوسائل، لانه تجرأ على مثل هذه الخطوة.
مكافأة الشيخ
القرني، ومكافأة المتطرفين الاسرائيليين تعكسان الفرق الكبير بين عقلية
عربية اسلامية (الشيخ القرني) تلتزم بآداب الحروب ومعاييرها، وتطالب بأمر
مشروع اي 'أسر' جندي ، وبين عقلية اسرائيليين من مواطني دولة تقول انها
الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، تطالب 'بقتل' داعية اسلامي، وشخصية مدنية،
لدعوته الى تبادل مشروع للأسرى معمول به منذ بدء البشرية.
لو طالب
الشيخ القرني بقتل الاسرائيليين المحتلين للأرض، المعتدين على أهلها،
المقيمين في مستوطنات غير مشروعة على ترابها، لقامت الدنيا ولم تقعد، وربما
سمعنا عن حملات تطالب بتسليمه للامم المتحدة، او محكمة جرائم الحرب
الدولية، بتهمة الارهاب والدعوة الى القتل، ولكن ان يرصد اسرائيليون مكافأة
للقتل وسفك الدماء، فهذا امر عادي لا يشكل اي اختراق للقوانين الدولية او
الوضعية.
الأمير خالد بن طلال آل سعود كان من القلائل الذين انتصروا
للشيخ القرني، عندما عرض 900 ألف دولار لمن يأسر اسرائيليا، بحيث يصبح
مجموع المكافأة مليون دولار، اي ما يساوي قيمة المكافأة الاسرائيلية.
أهمية
هذه المكافأة السعودية 'المزدوجة' تأتي من حيث توقيتها، ومن التأثير
الكبير الذي يمكن ان تحدثه في اوساط الفلسطينيين، سواء الأسرى في سجون
الاحتلال، او في الاراضي العربية الفلسطينية المحتلة، او حتى في اوساط
العرب جميعاً.
فهذه المكافأة تتزامن مع دعوات في بعض الصحف السعودية
تصور اسرائيل كحمل وديع لا يعتدي على جيرانه، ولا يخطط لاغتيال سفراء او
تفجير سفارات، واحتلال اراضي الغير، اسوة بما تفعله ايران في نظر اصحاب هذه
الدعوات.
وينسى هؤلاء ان العداء لايران لا يجب ان يكون على حساب مدح
اسرائيل، وتبرئتها من كل خطاياها ومجازرها واحتلالاتها المستمرة والدموية
لأراض عربية في فلسطين وسورية ولبنان، واعتدائها على سيادة دولة الامارات
العربية المتحدة، والاقدام على اغتيال مجاهد فلسطيني (محمود المبحوح) على
ارض امارة دبي المسالمة، التي تضرب مثلاً في التعايش بين اكثر من مئة
وخمسين جنسية من مختلف انحاء العالم.
' ' '
كثيرون حاولوا ان يضعوا
الصراع العربي الاسرائيلي في مرتبة متدنية، مقابل اعطاء الأولوية لأزمات
عربية اخرى، مثل الحرب العراقية الايرانية، او الغزو العراقي للكويت، او
الإيحاء بإبعاد عرب الخليج، شعوباً وحكومات عن هذا الملف الشائك، من خلال
تقسيم عرب المشرق الى خليجيين، وعرب المغرب والشمال، ولكن جميع هذه
المحاولات منيت بالفشل وظل الصراع العربي الاسرائيلي يحتل مكانة مركزية في
اذهان وضمائر عرب المشرق والمغرب في آن.
ايران، مثل اي قوة اقليمية
صاعدة، لها اطماع وحسابات سياسية، مثلما لها صراعات مع قوى خارجية، امريكية
وغربية على وجه الخصوص، تريد الهيمنة بالكامل على منابع النفط وامداداته
وتدوير عوائده، او امتصاصها من خلال اشعال نار حروب في المنطقة، ولا نجادل
في ذلك مطلقاً، ولكن الخطورة ان يتم الزج بالعرب، والشعوب الخليجية بالذات،
في هذه الحروب خدمة لأجندات خارجية.
لا نشك لحظة في ان العرب
الفلسطينيين تحت الاحتلال سيقدرون تقديراً كبيراً هذه 'الفزعة' من قبل
الشيخ القرني والأمير خالد بن طلال، كما ان الأسرى الفلسطينيين في سجون
الاحتلال، الذين يفوق عددهم ثمانية آلاف مجاهد ومناضل، سيشعرون بارتياح
كبير يخفف عنهم ظلام الزنازين وقسوة الجلادين الاسرائيليين.
جميل ان
يشعر الفلسطينيون الذين يتعرضون للمجازر الاسرائيلية، والحصار الظالم،
والمعاملة اللاانسانية تحت الاحتلال، ان اشقاءهم في المملكة العربية
السعودية، ارض الحرمين، مازالوا يشعرون بآلامهم، ويتعاطفون معهم، ويريدون
فك أسر ابنائهم في معتقلات الاحتلال، في زمن تكرّشت فيه الجيوش العربية،
وان استعادت لياقتها فلقتل المتظاهرين الذين يطالبون بالحرية والكرامة
والحقوق الديمقراطية المشروعة.
الفلسطينيون والعرب المقاومون الآخرون،
ليسوا مدمني خطف جنود، ولا يسرهم ان تكون قيمة الجندي الاسرائيلي الواحد
اكثر من مئة اسير عربي، ولكن ماذا يفعلون اذا كانت كل اساليب الاستجداء
التفاوضي، ومبادرات السلام، واغصان الزيتون العربية، فشلت جميعاً في
الافراج عن الأسرى الفلسطينيين، وان ما تفرج عنه الحكومة الاسرائيلية في
صفقات التبادل تعوضه مضاعفاً باعتقال مئات الفلسطينيين في أشهر معدودة.
' ' '
ان
تأسر اسرائيل المئات او الآلاف من النشطاء السياسيين فهذا امر مشروع، اما
ان يرصد عرب اموالاً لمساعدة اسر الشهداء لإعالة اطفالهم من الجوع واعادة
بناء منزل هدمته الجرافات الاسرائيلية وسوّته بالارض، او لأسر جنود في
مهمات عسكرية، يستعدون لارتكاب مجازر ضد مدنيين، فهذا امر مرفوض ومستنكر
ودليل ارهاب وهمجية.. أي عدالة هذه.. وأي ديمقراطية هذه التي يتحدثون عنها،
ويعايروننا بها؟
كنا نتمنى لو ان السلطات المصرية التي كانت وسيطاً في
صفقة شليط قد طبقت المعايير نفسها بالمطالبة بالافراج عن اسرى فلسطينيين
الى جانب اشقائهم المصريين (18 معتقلاً) مقابل الافراج عن الجاسوس
الاسرائيلي المحتجز لديها، وهي القادرة على ذلك، خاصة ان معظم الأسرى
المصريين المفرج عنهم قد اوشكت احكام سجنهم على الانتهاء. فنهج مصر الثورة
يجب ان يكون مختلفاً عن نهج حكومة الفساد التي سقطت بسواعد ثوار المدن
والقرى المصرية، وانحياز قواتهم المسلحة الى مطالبهم العادلة.
كما نتمنى
ايضاً ان لا ترهب هذه الدعوات الاسرائيلية المتعطشة لسفك الدماء الشيخ عوض
القرني والامير السعودي خالد بن طلال، وان يجدا الحماية اللازمة من قبل
الحكومة السعودية في مواجهة التهديدات الهمجية والاجرامية التي يتعرضان
لها.