علم الفقه:
وهو كما عرفه بعض العلماء الطريق لمعرفة الأحكام الشرعية العملية من خلال الأدلة التفصيلية؛
كمعرفة ما يجب ويحرم، وما يسن وما يندب، وما يكره، من خلال الكتاب والسنة، وما يستنبط
منهما.
ولقد حمل الصحابة -رضي الله عنهم- لواء الفقه بعد الرسول ( ، كل واحدٍ منهم في مجاله وفي
تخصصه الذي تفوق فيه، فنبغ عبد الله بن عمر في الفقه، وكان معاذ بن جبل أعلم الصحابة
بالمواريث، وأسس كل منهم ما يسمى بالمدرسة الفقهية.
وفي المدينة اشتهر عدد من الصحابة المقيمين بها بالإفتاء مثل أبي بكر وعمر
وعثمان بن عفان وعلي وزيد بن ثابت، ومن النساء عائشة وأم سلمة، وأخذ عن هؤلاء الصحابة
عدد من التابعين عُرفوا في المدينة بالفقهاء السبعة، وهم:
عروة بن العضو ذكريير (ت 94 هـ) الذي أخذ الفقه عن خالته عائشة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم، وسعيد بن المسيِّب (ت 94 هـ) وكان زوج ابنة أبي هريرة، وكان يحفظ
فتاوى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة
بن مسعود (ت 98هـ) وكان ثقة فقيهًا، كثير الحديث والعلم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث (ت 94 هـ) وكان فقيهًا كثير العبادة، وسليمان بن يسار (ت 107 هـ).
وكان خادم ميمونة بنت الحارث زوج النبي (، والقاسم بن
محمد بن أبي بكر (ت 108 هـ) وكانت عمته السيدة عائشة، وكان من الفقهاء الكبار
الصالحين الأتقياء، وخارجة بن زيد بن ثابت، وهو ابن الصحابي الجليل
زيد بن ثابت الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
وفي مكة كان زعيم مدرسة الفقه والفتوى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، الذي دعا له
الرسول ( بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، ومن تلاميذ هذه المدرسة مجاهد وعكرمة
مولى ابن عباس وعطاء وطاووس وغيرهم.
وفي الكوفة بـرز من الصحابة عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري
وعمار بن ياسر وغيرهم -رضي الله عنهم-، ومن تلاميذ هؤلاء الصحابة:
علقمة بن قيس النخعي (ت 62 هـ )، والأسود بن يزيد النخعي (ت 75 هـ)، وشريح بن
الحارث القاضي (ت 82 هـ).
وفي البصرة، عاش الصحابي أنس بن مالك مدة من الزمن، وتتلمذ فيها على يده عدد من
التابعين مثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين مولى أنس بن مالك وغيرهما. وفي الشام، كان
أبو إدريس الخولاني (ت80 هـ)، ومن تلاميذه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وغيرهما.
وأما مصر، فتمتعت بوجود صحابيين جليلين هما عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وعلى
أيديهما تخرج يزيد بن حبيب (ت 128 هـ)، وهو أول من تكلم عن الحلال والحرام في مصر
بصورة علمية، كذلك ظهر في مصر الفقيه الجليل الليث بن سعد، الذي قيل عنه: كان الليث أفقه
من مالك لولا أن أصحابه ضيعوه. يعنى لم يحفظوا فقهه وينشروه كما فعل تلاميذ الأئمة
الآخرين.
المذاهب الفقهية الأربعة:
المذهب الحنفي: وهذا المذهب، يعد امتدادًا لمدرسة الصحابي عبد الله بن مسعود في الكوفة،
وإمام ذلك المذهب الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80 -150 هـ).
ومن أشهر تلاميذ أبي حنيفة: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) الذي
دَوَّن فقه أستاذه أبي حنيفة في كتب مثل: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والكبير.
المذهب المالكي: وهو امتداد لمدرسة المدينة، وينسب إلى الفقيه المدني مالك بن أنس (ت 179
هـ)، وللإمام مالك كتاب الموطأ وهو كتاب حديث مرتب على أبواب الفقه. ومن أشهر تلاميذ
المذهب المالكي: عبد الرحمن بن القاسم المصري،
وأسد بن الفرات الذي نشأ في أفريقية، ثم رحل إلى المدينة، وسمع موطأ مالك، وتفقَّه على يد
عبد الرحمن بن القاسم في مصر، ونقل مسائل مالك وسجلها في كتاب باسم الأسدية.
المذهب الشافعي: ومؤسسه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150ـ 204هـ) أحد أئمة
الفقه الأعلام، ورحل إلى العراق، وكوَّن هناك مذهبه القديم، وألف في ذلك كتاب الحجة، وأتى
الشافعي إلى مصر مرتين، وفي المرة الثانية سنة (199هـ) استقر في مصر، وظل بها حتى
مات، وعدَّل في مذهبه تعديلات كثيرة، فأنشأ لنفسه مذهبه الجديد، وكان يقول: إذا صحَّ الحديث
فهو مذهبي.
وألف الإمام الشافعي في مصر كتبًا رائعة في الفقه وغيره، منها كتاب الأم، وهو موسوعة فقهيَّة
قيمة، ووضع أصول علم جديد، هو علم أصول الفقه، وألف فيه كتاب الرسالة، ومن أشهر
تلاميذه: أبو ثور الربيع المرادي (ت 270 هـ)، ويوسف بن يحيى البويطي (ت 231 هـ)،
وإسماعيل بن يحيى المُزَني (ت 264 هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ).
المذهب الحنبلي: وينسب هذا المذهب إلى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني
(164 ـ 241 هـ)، وهو مذهب قائم على الحديث النبوي الشريف، وأفعال الصحابة حيث يقدم
الحديث، ويأخذ به وإن كان ضعيفًا يفضله على الأخذ بالرأي (الاجتهاد)، ويأخذ بأقوال الصحابة
والتابعين.
ولم يترك الإمام أحمد مؤلفات تعبر عن فقهه لكن تلاميذه نقلوا آراءه الفقهية، فحُفظ بذلك مذهبه
من الضياع، ومن تلامذته: صالح بن أحمد بن حنبل (ت 266 هـ) وهو أكبر أولاد الإمام أحمد،
ونقل معظم فقه أبيه، وعبد الله بن أحمد بن حنبل
(ت 290هـ) وهو الذي روى مسند أبيه في الحديث، وأبو داود (ت 257 هـ) صاحب كتاب
سنن أبي داود، وإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285 هـ).
وهكذا لعب الفقهاء دورًا هامًّا في ازدهار الحضارة الإسلامية ورقيها، بما قدموا لها من اجتهادات
واستنباطات وأحكام للحوادث التي وقعت في عصرهم والتي لم تقع، وتوقعوا إمكان حدوثها في
المستقبل، وخاصة في المذهب الحنفي، وهذا من عظمة الفقه الإسلامي.
يتبع