مجنون

مشرف سابق

أنا لست مجنونا أيها السادة .
اقسم لكم بأنني لست مجنونا و لم اكن يوما كذلك . و أتحدى
كل من ينعتني بهذه الصفة أن يثبت ما يقول دون الاعتماد على من القوا بي في هذا
المستشفى ، ما الذي يعرفونه هم ، يجلسون خلف مكاتبهم الوثيرة ، يتأرجحون فوق
كراسـيّهم الهزازة و يَـقْسِمون العقل بين الناس هذا مجنون و ذاك عاقل ، من أعطاهم
الحق للقيام بهذا ، تصبح حياتك كلها متعلقة بكلمة واحدة تنزلق من بين شفاههم
فيقلبونها رأسا على عقب ، و يعودون لحياتهم المعتادة و كأن شيئا لم يحدث . القوا
بي في هذا المستشفى منذ مدة و تركوني نهبا للرعب . لا أتجرأ على النوم ليلا ، أخاف أن
يقوم أحد الذين ينامون معي في الغرفة بقتلي . أنت لا تستطيع أن تتنبأ بما يمكن أن
يطرأ في عقول هؤلاء المرضى ، و إذا ما انتووا قتلي فمن ذا سيمنعهم من ذلك ؟ . اكثر
من يخيفني من المرضى
هو كمال بعينيه الهائمتين
و نظراته التي تنضح بالحقد والكراهية للجميع ،
رأيته اكثر من مرة يتجول في الليل بين الأسرة يلبث قليلا عند كل
سرير قبل أن ينتقل إلى الآخر . يا الهي يجب أن يخرجوني من هنا ، أنا لا انتمي إلى
هذا المكان مطلقا ، استجديتهم مرارا ليخرجوني ، إلا انهم كانوا دائما يرددون
" ما زلت تحتاج للعلاج ، و عندما نرى أن صحتك تتحسن سنخرجك ، فلا تقلق "
. اقلق ؟ ، فماذا يسمون عدم نومي ليلا ؟ ، هؤلاء الحمقى ، تجتاحني رغبة عارمة في
تحطيم وجوههم النتنة بقبضتي ، علني اشفي جزءا من الغليل المتأجج في صدري .

و لكنني أنا السبب في كل هذا ، فلولا تهوري لما وصلت إلى
هنا . كنت احمقا - و ليس مجنونا - عندما استمعت لنصيحة أحد أصدقائي بان أراجع أحد
الأطباء النفسيين ، حيث أنني مررت بالعديد من الظروف التي أدت إلى إحباطي ، و
ليتني لم استمع لنصيحته . تخيل نفسك و أنت تذهب إلى شخص ما و تعطيه نقودك و لا
يعمل شيئا سوى أن يستمع لك و أنت تثرثر أمامه لساعات ، تتحدث عن نفسك ، يجعلك تسبر
أغوارا في حياتك لم تعد تتذكر أنها موجودة ، تكون قد نسيتها تماما ، تستعيدها
ثانية و تلقيها بين يديه ، و يظل جالسا أمامك يهز رأسه بروية و كأنه اله من نوع ما
، ثم يبتسم في وجهك بزيف قائلا " يكفي لهذا اليوم ، سنكمل في الزيارة التالية
" . ثم تعود إليه و يتكرر هذا في كل مرة تعود فيها لزيارته . لم أتحسن مطلقا
، لا زلت اشعر بأنني لم استعد نفسي
. فأنا لا زلت أحس بأنني إنسان غير تام ، أحد ما سلبني
هذا الإحساس الجميل ، أن تكون إنسانا تضحك ، تبكي ، تقع في مشاكل تستعصي عليك ،
يحبطك القنوط و ينتشلك الأمل ، أحيانا اشعر بالراحة لما أنا عليه ، و أحيانا أخرى
افتقد تلك الأحاسيس التي سلبت مني . و لو كنت اعرف أن هذا هو كل ما سيقوم به
الطبيب ، لكنت وقفت أمام المرآة و تحدثت لنفسي ، إذا لوفرت النقود التي كنت ادفعها
في كل زيارة أقوم بها له .
أنا لست مجنونا .
و لكنني أصبحت أرى الأشياء بطبيعتها الأولية ، افتقدت
القدرة على المواربة ، فمثلا في الألوان لم اعد أرى اللون الأسود الغامق ، و
الفاتح ... الخ ، بل صرت مقتنعا بأنه لا يوجد سوى لون اسود واحد فقط و هو ذلك الذي
نعرفه جميعا ، و لم اعد أرى في الحياة سوى صفين متقابلين من الناس فاللص يقابله
الشريف ، و الخائن يقابله الأمين ، افتقد الإحساس الرائع للمابين ، ان ترى نفسك
بين هذين الصفين ، لا تميل إلى أي منهما يورثك إحساسا بالأمن ، أن ترى الناحية
الجمالية للعين المفقوءة للأعور كم افتقد هذا الإحساس ، فأنا الآن لا أرى في
الأعور إلا العوار ، اشعر بان المابين تـمّحي من داخلي و تندثر فلا أرى الأشياء
إلا بصورة واحدة .

و كما أخبرتكم شعرت بأنني لم استفد شيئا من ذلك الطبيب ،
فقررت استعادة نقودي منه كاملة فذهبت إلى العيادة . دلفت إلى صالة الانتظار ، كانت
خالية إلا من السكرتيرة و رجل آخر على الأرجح انه مريض ، فقد كانت عيناه لا تثبتان
على شيء اكثر من ثوان معدودة ، و بعد جلوسي راح يتنقل بين الكراسي ، ما إن يجلس
على أحدها حتى ينتقل إلى الآخر إلى أن استقر بجواري . اخذ يقضم أظافره بتوتر زاد
من الاستفزاز الذي يعتمل في صدري ، لم يستجب لنظراتي الحادة و تابع قضم أظافره و
كأن الأمر لا يعنيه .
- الديك سيجارة ؟
سألني بنبرة متحمسة ، ناولته واحدة ، عـضّ عليها بأسنانه
بقوة و راح يسحب منها أنفاسا متلاحقة دون أن يخرجها من فمه ، فانكمش جسمها و طالت
زهرتها ، كانت تلك أول مرة أرى فيها أحدا يدخن بتلك الطريقة الهمجية .
- أهذه أول زيارة لك هنا ؟
قال و سحق عقب السيجارة في المنفضة و ظل يضغط عليها
بإبهامه و كأنه يخشى أن تتقد ثانية أن رفع إصبعه ، فأجبته ببرود :
- كلا ، ليست الأولى .
- و لكنني لم أرك هنا من قبل .
- هذا من سوء حظي .
- لا تبتئس ، سنلتقي في الأيام القادمة .
كان ينتر الكلمات نترا و كأنها مربوطة في قوس اسفل حلقه
. و بعد لحظة مال إلى أذني و راح يرقب السكرتيرة بطرف عينه ، ثم همس قائلا:
- سأخبرك عن سر يتعلق بهذا الطبيب . يجب أن تقنعه انك
تستمع لما يقوله لك ، و انك تتحسن باتباعك لنصائحه ، و إلا فانه سيرسلك إلى
المستشفى ، أنت لا تعرف الوضع هناك ، انه أسوء من الجحيم ذاته . أنا نفسي اتبعت
هذه الطريقة و هاأنذا أنام في بيتي
.
- و مم تعاني ؟
وجدت نفسي اسأله ، فالتمعت عيناه بزهو و قال بهمس :
- أحيانا يتأجج في صدر شعور بان كل من يحيطون بي أوغادا
و لا يستحقون الحياة ، و لا ادري ما الذي أحضرهم إلى الدنيا ، بعدها افقد السيطرة
على نفسي و ابدأ بتحطيم كل ما تقع عليه يداي . وقعت زوجتي ذات مرة بين يدي و أنا
في تلك الحالة فانهالت عليها ضرباتي و لم يخلصوها من بين يدي إلا و هي مغمى عليها
. جاء هذا الطبيب لتقييمي ، اخبرني أحدهم بالطريقة التي حدثتك عنها فاتبعتها ، و
شهد لصالحي في المحكمة . و أطلق سراحي على أن أتابع العلاج لديه ، لولاه لكنت الآن
أما في السجن أو في المستشفى ، و كل منهما أسوأ من الآخر .
فتح باب غرفة الطبيب و خرج أحدهم من هناك ، فالتفتت
السكرتيرة إليه قائلة :
- سيد محمود انه دورك .
التفت إلي و هو في طريقه إلى الطبيب و قال :
- أراك فيما بعد .

توالى مجيء المرضى و المرافقين لهم فاكتظت الصالة بهم ،
حتى خلت أن الجميع في هذا البلد مجانين . و عندما حان دوري التقيت و محمود أمام
الباب ، نظر إلي و غمز بعينه قائلا
:
- لا تنس كما أخبرتك .

كان ما يزال واقفا وسط الغرفة يمتص لفافته بتأنيه
المعتاد ، أشار لي بالجلوس و هو يلقي بجسده خلف طاولته ، هززت رأسي رافضا و قلت
بصوت ثابت النبرات :
- أنت مدين لي بما يقارب المأتي دينار ، و أريد
استعادتها الآن .
- ماذا تقول ؟
صاح بدهشة ، و حملق في وجهي بعينيه المفتوحتين على
وسعهما . فأعدت بنفس النبرة :
- سمعتني جيدا . أنت مدين لي بمأتي دينار ، نظير الجلسات
التي حضرتها هنا في هذا المكتب
- هل تعي ما تقول ؟
- طبعا اعي ذلك ، فأنا لست مجنونا . إنني لم استفد منك
شيئا ، في جميع جلساتك كنت أنا من يتكلم طوال الوقت ، أما أنت فلم تصنع أي شيء سوى
الحملقة في وجهي ، و لا شيء آخر
.
- اجلس سنتحدث بعدما نشرب القهوة . اجلس يبدو انك متعب .
- لم آت هنا للجلوس ، أريد استعادة نقودي ، و لن اخرج من
هنا إلا و هي في جيبي .
صحت بكل ما لدي من قوة . مد يده إلى الهاتف رفع السماعة
و حاول أن يتصل ، في تلك اللحظة فقدت القدرة على تمييز ما أراه أمامي ، أغلقت
عيناي بغشاوة رمادية قاتمة ، لم استطع أن الجم نفسي فانقضضت عليه . لم استعد
إحساسي بما يدور حولي إلا و العديد من الأشخاص ينتشلونني من فوقه . " امسكوه
جيدا ، سأعطيه مهدئا . لا تدعوه يفلت من بين أيديكم " صاح بصوت مشروخ .
طرحوني أرضا و قاموا بتثبيتي ، شعرت بوخزة خفيفة في ذراعي ، بعدها طمس كل ما حولي . و استيقظت لأجد
نفسي هنا ، في هذا المستشفى .

الصدمات الكهربائية هي اكثر ما يرعبني في هذا المكان .
كنت أرى كمال كلما يعود من الغرفة التي يعطون فيها المرضى صدمات الكهرباء ، يكون
باليا بين أيديهم ، يلقونه على سريره و يبقى هكذا لمدة يوم أو يومين قبل أن يستعيد
جسده القدرة على الحركة . حدثني أحدهم بأنهم يوصلون قطبي الكهرباء بنهايتي الجبهة
ثم يتركونها تجتاح جسدك بمجون ، تنفضك ثم تلقيك مهترئا لا تقوى على شيء . و قيل
انهم ذات مرة قاموا بإطلاق شحنة زائدة إلى جسم مريض ، لدرجة أن الدخان راح يتصاعد
من رأسه . أصابتني عدة كوابيس جراء ذلك ، أصحو على إثرها متيبس الحلق ، و العرق
يتصبب مني بغزارة و لا أستطيع العودة إلى النوم ثانية . سأفعل كل ما يطلبونه مني
شرط أن لا يضعوني تحت الكهرباء ، إنها ترعبني حتى الجنون .

إلا أنني لا زلت أحس بتلك اللعنة تسكن في صدري ، فبالرغم
من المدة التي قضيتها حتى الآن في المستشفى ، ثلاث سنوات ، فإنني ما زلت أرى
الأسود اسودا ، و الأبيض ابيضا ، و الأعور اعورا . و مع ذلك اقسم لكم يا سادة
بأنني لست مجنونا .

عضو الهيئة الادارية نائب المدير

مرحب زكريا ...

اريد التعليق لكن الرجاء التوضيح

لمن هذه القصة ؟؟؟ اقصد هل انت كاتبها ؟؟؟

بإنتظارك

مشرف سابق

lool

هلا و غلا
و انا بانتظار تعليقك
و انا من قام بكتابتها

عضو الهيئة الادارية نائب المدير

حديث نفس شوقني لمعرفة النهاية ...

لماذا لم تكن سعيدة ...

تركتها مفتوحة واسأل نفسي ماذا حل به

اليه هو ... اقول

حاشاك من الجنون فحديث نفسك لم يكن جنوناً

وثبات الالوان ورؤية كل شيء على واقعه ليس جنوناً

فقد تكون حكمة ...

انتهت القصة زكريا لكن الجميل

هي التساؤلات التي تعن بالبال

ما الذي اوصله لباب الطبيب النفساني

واي سبب اوصله لقول
المابين تـمّحي من داخلي و تندثر فلا أرى الأشياء
إلا بصورة واحدة .
وانا اتساءل زكريا لماذا لا تملك مدونة لتدون

قصصك الثمينة وخواطر قلمك

لن اجاملك واقول ابدعت ودام نزف قلمك

لست بحاجة اشادة مني ..

يكفي اني استمتعت وتركتني مع تساؤلاتي

لك مني ارق التحايا

مشرف سابق

تحياتي

المابين هي
آمن طريقة للعيش مستورا من اعين الاخرين
ان تكون جزءا من القطيع خير من ان تنفرد عنهم
فيسهل اقتناصك
ان تعيش في اللون الرمادي خير من ان ترى
الابيض و الاسود لونان منفصلان
انها القدرة على التعايش قي زمن التداخل

رمزية الواقع هي ما ابحث عنه
فلا المجنون مجنونا
و لا الطبيب طبيبا
انهم اشخاص نعايشهم و نختلط بهم يوميا
و نرى الحقيقة تخرج من احدهم
و الاخر يتماهى مع المعاش
و حكمة " حط راسك بين هالروس "
و عصا السطلة فوق الجميع

اذكر صديقا لي خرج من المابين
و لم يعد ثانية رغم محاولاته العديدة
و لم يأل الاخرون جهدا في تأديبه ليعود
ربما كانت هذه القصة موجهة له
و انا انتظر نهايته لأرى كيف ستكون

اشكر لك مرورك
وتعليقك

» اختبر انت عاقل ولا مجنون
» عبد الباري عطوان خطير نعم.. مجنون لا