«الإسلام» في مواجهة تحديات أوروبا والحداثة

المدير العام العمر : 59 *المزاج* :

بقلم د .: محمد أركون (كاتب ومفكر جزائري )
سوف أبتدئ حديثي باستشهادين مأخوذين من اثنين من كبار المفكرين في التراث العربي الإسلامي. الاول هو لأبي حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، والثاني هو لأبي يعقوب بن اسحاق الكندي أول فيلسوف عربي مسلم في التاريخ. يقول أبو حيان التوحيدي في "البصائر والذخائر" ما معناه: "ان ايماننا بالغيب تغلب على يقيننا الناتج عن التجربة الحسية المباشرة".
وأما الكندي فيقول بالحرف الواحد: "ينبغي لنا ألا نستحيي من استحسان الحق من أين أتى، وان أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فانه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق. فليس ينبغي بخس الحق، ولا تصغير بقائله ولا بالآتي به، ولا أحد بُخس بالحق، بل يشرفه الحق". وهذا اكبر دليل على الانفتاح الفكري في عهد المأمون عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. ومعلوم ان الكندي كان مقربا من الخليفة العظيم المأمون وأجواء "بيت الحكمة" المنفتحة على الفلسفة اليونانية ومختلف الثقافات الاجنبية.
لكن قبل ان أدخل في صلب الموضوع عن علاقة الإسلام بأوروبا وحداثتها ينبغي ان أقدم بعض المعلومات التمهيدية والضرورية. ينبغي ان نستعرض بعض المعطيات والسمات الدائمة لما يدعى بأوروبا والاتحاد الاوروبي الذي هو في طور التشكل والتبلور الآن. ينبغي ان نتحدث عن أوروبا، والأديان، والتعددية الثقافية، والجاليات المهاجرة، والاصولية الراديكالية، والرعب الارهابي، والخوف، والعنف البنيوي الذي يميل إلى ان يصبح دائما على الصعيد العالمي. وهو أحد جوانب العولمة أو أحد الجوانب المرافقة للعولمة. فالعنف على عكس ما يزعم الاعلام الغربي ليس آتيا فقط من جهة المتطرفين الاصوليين، وانما من جهة الغرب وحلفائه أيضاً. وعنف العولمة الغربية هو الأقوى نظرا للقوة الجبروتية للغرب.
كما وينبغي ان نتحدث عن العصبية الاقليمية أي تعصب كل واحد لمنطقته واقليمه، والعصبية الطائفية من يهودية أو مسيحية أو إسلامية. وكذلك ينبغي ان نتحدث عن الشروط النفسانية والسياسية والثقافية التي ينبغي ان تتوافر لكي يحصل حوار مثمر مع العالم العربي- التركي- الايراني بصفته أحد المكونات التاريخية للفضاء الجغرافي التاريخي المتوسطي. فهذا العالم الشاسع الواسع يقف على الضفة الاخرى من المتوسط في مواجهة العالم الاوروبي من اسباني وايطالي وبرتغالي وفرنسي الخ. صحيح ان ايران لا تقع على المتوسط ولكنها محسوبة عليه نظرا لقربها منه وتداخلها تاريخيا معه. ينبغي ان نتحدث أيضاً عن مفهوم "القدر الساطع" للأمة الامريكية بحسب التعبير الشائع هناك. كما وينبغي ان نتحدث عن مصطلح "الأمة الضرورية التي لا غنى عنها للعالم والحامية لأوروبا" بعد ان أنقذتها مرتين ابان الحربين العالميتين. وهي الأمة الامريكية بالطبع طبقا لمنظور المثقفين والقادة الامريكان. فهذه الأمة نظرا لقوتها وجبروتها غير المسبوق تعتبر نفسها ضرورية لتوازن العالم. ولكن ربما كانت أيضاً سببا لتفاقم مشاكله بسبب السياسات الخاطئة. فلا ينبغي ان ننسى ذلك المصطلح العنجهي الذي شاع في عهد بوش والذي يقسم العالم إلى قسمين: محور الخير، ومحور الشر...
كما وينبغي ان نتحدث عن تكرار الحروب الأهلية في بلدان الجنوب أي في العالم العربي والإسلامي والافريقي أساسا. ولا تغيب عن بالنا عقدة ذلك الصراع العربي الاسرائيلي الكبير. فهو يشغل العالم منذ عقود وعقود دون ان يلقي الغرب بثقله لايجاد حل معقول له حتى الآن. وهناك مشاكل أخرى تشغل العالم أيضاً كانتشار الاسلحة الذرية بشكل عشوائي وخطورة وصولها إلى أيد غير مسؤولة. وبالنسبة لأوروبا عموما هناك مشكلة نضوب النسل أو تناقص عدد السكان بسبب قلة الولادات والانجاب. وهي ظاهرة تعاني منها معظم الدول المتقدمة. ولذلك فانها تستعين باليد العاملة الاجنبية. من هنا تواجد عدد كبير من الجاليات العربية والإسلامية والافريقية في بلدان اوروبا الصناعية.
ولا ينبغى ان ننسى المشاكل الفلسفية المطروحة على أوروبا والفكر الغربي عموما. وفي طليعتها ينبغي ان نذكر أزمة العقل والقيم الناتجة عن عصر التنوير. فبعد ان سيطرت طيلة مائتي سنة وقعت الآن في أزمة. وفلاسفة اوروبا وامريكا مشغولون بتشخيصها وحلها. هناك أيضاً صراع لا يلتفت اليه الكثيرون. وهو ناتج عن هيمنة المعرفة السطحية السريعة التي تنشرها وسائل الاعلام الكبرى وتلعب على وتر التهييج والاثارة بالدرجة الاولى. انظر الكليشيهات المختزلة التي تنشرها عن الإسلام والعرب عموما. وهذا ما يؤدي إلى اضعاف الاهتمام بالمعرفة النقدية المتأنية. يضاف إلى ذلك عجز غالبية الناس عن تتبع أبحاث علوم الانسان والمجتمع ناهيك عن استيعاب منجزاتها وهضمها. وهي منجزات طليعية جريئة من الضروري ان يطلع عليها المرء لكي يفهم ما يجري حاليا وبعمق.
هذا ونلاحظ تكرر الاجوبة الماضوية على المشاكل السابقة وذلك بسبب الحنين والانشداد إلى الوراء. فبعض مثقفي الغرب يركزون الآن على الجذور الاغريقية - الرومانية لأوروبا، وكذلك على الجذور اليهودية - المسيحية، والأنوار العلمانية بصفتها أساس النزعة الانسانية المتمركزة على كرامة الشخص البشري ورسالته الروحية. ونلاحظ هنا النسيان الكامل للجذور العربية الإسلامية ودورها في نهضة أوروبا. المرجعيات الكبرى لهذه النزعة الانسانية هي أفلاطون، والقديس بولس، وايراسموس أمير عصر النهضة، ومونتيني، وهوبز، وكانط، وفولتير، وروسو، الخ..
وهناك مشاكل أخرى كالبحث عن الخلاص، ورفاهية الفرد المواطن، والحرية بشكل عام، والحريات الاساسية. هذه هي القضايا التي تشغل الرأي العام المثقف في أوروبا اليوم. وهي تخصنا أيضاً. وسوف نعالج بعضها أو كلها تباعا على مدار المقالات القادمة.
جريدة الراية القطرية

» تحديات التراث الفلسطيني
» تحديات حراك الدولة الفلسطينية
» مسؤولون اسرائيليون: الدولة العبرية أمام تحديات أمنية جديدة
» إسرائيل قلقة من نزع شرعيتها في أوروبا
» صحف عبرية \فلسطين تهاجم في أوروبا