صنعاء - المركز الفلسطيني للإعلام
لم تكن تلك الشخصيات كلمات تخط في صفحة الذكريات، وتطوى بانطواء تلكم الصفحات، ولكنها شخصيات يشرق فيها الأمل كلما حط في القلب حنين اللقاء، إنهم أشخاص ليسوا من عالم الغريب أو المستحيل، لكنهم حكايات من ضرب الحقيقة لا الخيال؛ حيث جسدوا بثباتهم قصصًا واقعية تمشي ما مشينا، وتسموا ما سمونا، في درب الصمود والمقاومة. إنهن زوجات الأسرى الفلسطينيين الذين طوت جدران الزنازين أزواجهن في غيابات السجون، والذين قضى الحكم الصهيوني الغاشم عليهم بالسجن المؤبد أو ما سيمضي من الحياة كلها أو ما يزيد، وبقين ما بقي في القلب آلام وأحلام، وثبتن ورابطن بانتظار هذا الزوج وهذا الفرج المنتظر. زوجات أسرانا الأشاوس.. إنهن قائدات في الجهاد باسلات في الثبات والانتصار على النفس. يقضي في المعتقلات الصهيونية ما يزيد عن 7500 أسير؛ منهم 330 طفلاً، و35 أسيرة و11 نائبًا، والكثير من هؤلاء الأسرى متزوجون، ورغم حكم الاعتقال الطويل الذي يكون أغلبه السجن مدى الحياة؛ رفضن تلك الزوجات أن يفضضن تلك العلاقة الزوجية بدافع غياب هذا الزوج غير المعلوم الأجل، بل وتتشبث هذه المرأة الفلسطينية بزوجها الطاهر فتخرج وتصرخ في وجه العالم بما آتاها الله من قوة لتنصر هذا الزوج؛ علَّها تضمِّد ولو قدرًا يسيرًا من جراحاته داخل المعتقل، فتواصل الاعتصامات والإضرابات أمام المحافل والمؤسسات الحقوقية، وترفع نداءات بالشجب وتقارير بأحوالهم المتردية، وفي البيت تعود إلى أطفالها تعيل وتنشئ نشئًا قويمًا، وتشد على أياديهم ليكملوا مسيرة ذلك الأب البطل. إنها المرأة الفلسطينية التي ليست رقمًا صعبًا فحسب، بل كل الأرقام والمعادلات في الزمن العتيد الذي لا تستطيع إملاءاته إلا هذا الصنف من البشر. ومن باقة الزهور هذه، ومن ساحة التشريف تلك، كانت سناء السكران زوجة الأسير محمد السكران، الذي قضى إلى الآن ما يزيد عن 18 عامًا في المعتقلات الصهيونية، وقد روت تلك الأحداث الدامعة قصة البطولة التي تجسدت في ثبات تلك الزوجة حين حكم على زوجها ورفيق دربها بالسجن مدى الحياة، فرفضت أن تنفصل عنه لتصنع لها حياة جديدة مع شخص آخر بمبرر طوال الغياب، وبمبرر أقوى عدم وجود ولد؛ فسناء لم تقض معه إلا ستة أشهر متفرقة، كما أفادت، ولم تنجب خلالها أي طفل. التقيناها وسألناها: "ماذا كان قرارك حين سمعت نبأ حكم زوجك بمدى الحياة، خاصة أنه لم يمض على زواجك منه إلا أقل من سنة، ولم يكن لك منه أي طفل؟"، فأجابت: "قراري كان دون تردد أو تفكير هو البقاء معه وانتظاره حتى ولو أمضى أبد الدهر. صحيح أني عشت معه أقل من ستة أشهر فعليًّا، ولكن لا يراودني ولو للحظة أن أتخلى عنه". فباغتناها بسؤال آخر: "وما الذي يجعلك تصبرين على هذا؟"، فقالت: "أولاً ثقتي العالية بأن فرج الله قريب حتى ولو طالت السنين، ثانيًا حبي الشديد له وارتباطي العاطفي به كان متينًا، وصراحة كنت أستمد منه قوتي وثباتي كلما زرته أو كلمته هاتفيًّا إذا ما سمح لنا، فيعطيني مزيدًا من الأمل والقوة والثقة بنصر الله، وكل مرة كان يؤكد لي أن هذه طريقنا ولن نتراجع، وأنا على ثقة أنني أشاركه هذا الجهاد بصبري وبقائي بروحي معه؛ فبقائي والله يزيده ثباتا على دربه"، وأكدت أنها غير نادمة على مرور 18 سنة وزوجها في السجن، وأنه قد خيرها بين تركه قائلة: "لكنني لا أقبل ولا أندم ولن أندم أو أتراجع عن وفائي له وإصراري على الصمود". أما زوجة الأسير إياد أبو طاقية المحكوم عليه بالسجن 40 عامًا قضى منها ما يزيد عن 18 سنة، وقد كانت حين اعتقل في أوائل العشرينيات من عمرها، ولم يمض على زواجهما وقتها إلا سنة أنجبت فيها ابنهما صهيب ابنًا الوحيدًا لها، ومع ذلك لم تراوح مكانها في قلب زوجها، ولم تعلن إلا مزيدًا من الثبات والتحدي، أما الابن الذي تركه أبوه وليدًا فهو الآن في الثانوية العامة، قد قطعها، ويستقبل المرحلة الجامعية بمعية تلك الأم التي دافعت عن قرارها وتمسكها بزوجها. الجدير بالذكر أن أم صهيب كانت ولا تزال في ريعان شبابها، والطريق لا يزال أمامها، وهذا ما حدثناها به فردت قائلة: "لا والله، لا أتخلى عنه، ولن يحدث ما حييت"، وحين أردنا معرفة ما الذي يصبرها على ذلك قالت: "أولاً حبي له، ورغم ما عانيت في غيابه من ضغوطات الحياة المتمثلة في المسؤولية الكاملة عن ولدنا، ورغم ضغط البعض من الناس على أن أرى حياتي، صمدت في وجه تلك المغريات، بل والله قاطعت كل من يكلمني بذلك؛ فهذا زوجي قد ضحى من أجلي وأجل ابننا وأجل شعبه وفلسطين، وأنا حين أصبر أصبرِّه على بلائه؛ بهذا أكون قد جاهدت معه، وهذا شرف لي ولابننا". وقد أخذتنا الجرأة حين سألناها: "لو حدثتك نفسك أنه لن يخرج مطلقًا -لا قدر الله - كيف يكون قرارك؟"، فأجابت بنبرة تحدٍّ: "والله لا اتركه أبدًا، وأنا أكتفي بزيارة له في معتقله أو حتى مكالمة، وإن لم تسمح لي رؤيته كما حالنا الآن فيكفيني ذكرى حلوة معه أعيش بها كل ما تبقى من حياتي، ومع هذا فانا كلي أمل بان الفرج قريب بإذن الله". أما هالة النوري زوجة الأسير جمال النوري، والذي حكم عليه بالاعتقال 13 عامًا، وحينها كان لا يتجاوز عمرها 18 عامًا وتركها وهي حامل؛ حيث أنجبت بنتًا في غيابه؛ فتقول: "إنه شيء مؤلم جدًّا أن أعيش أنا وابنتاي بدونه، ولكن هذا هو طريقه وطريقي أنا معه، سواء خارج السجن أو داخله؛ فوالله لو بقي العمر كله أسيرًا -لا سمح الله- لبقيت أنتظره". وحين سألناها: "ما الذي يدفع بامرأة صغيرة مثلك وبابنتين فقط أن تنتظر شيئًا غير معلوم؟"، قالت: "إيماني بالله أولاً بأنه لن يضيعني أبدًا؛ فأنا أحمل مع زوجي ذلك الهم الفلسطيني؛ فإحساسي أني واحدة من هذا الشعب المذبوح، وأنا أفضل من غيري؛ فكثير مصابات في أزواجهن أو آبائهن أو أشقائهن، لن أكون في ظل هذا إلا من يسانده ويشد على يده، بالإضافة إلى حبي الشديد له؛ فهو حياتي التي ملأها علي وعلى ابنتيَّ، حتى وإن لم يكن بيننا". وطلبنا منها أن تجيبنا بكل صدق: "لو خرج زوجك وصرح لك بمعاودة نشاطه الجهادي هل ترفضين بمبرر أنكم دفعتم ضريبة الجهاد وعلى غيركم أن يستلم الراية؟"، قالت: "والله ما أقول له إلا أنني معك في نفس الدرب، بل وأساعده على ذلك، وهذا شرف لنا". وعن تدبيرها أمرها وأمر الابنتين، وهل يدفعها الحنين لزوجها إلى التقاعس عن رعايتهما وتربيتهما كما يريد، قالت: "أحلى سيء في حياتي هو ابنتاي؛ فهما من يشعراني بأن جمال لا يفارقنا مطلقًا، والحمد لله غياب والدهما في عمل مشرف كهذا يدفعني أكثر إلى تربيتهما تربية صالحة؛ فابنتاي -وهما منار وابتسام اللتان لا يتجاوز عمرهما عشر سنين- تحفظان كثيرًا من كتاب الله، وأعلمهما دائما تعاليم الإسلام، وهما مواظبتان على الصلاة، حتى صلاة الفجر، لا يضيعانها رغم صغرهما، أما في المدرسة فالحمد لله تسجلان أعلى الدرجات، وهذا العام قد حصلت منار التي في الصف الثالث على معدل 97%، وابتسام التي في الصف الثاني 98%". إذن هي تلك المرأة الفلسطينية قائدة في كل الميادين. |