كتاب "القدس ليست أورشليم" لفاضل الربيعي
عدد القراء : 290
03/08/2010 يخوض فاضل الربيعي في منحدرات التاريخ اليهودي، ولا سيما تاريخ أورشليم في كتابه "القدس ليست أورشليم" (رياض الريس للكتب والنشر)، محاولا ان يثبت ان أورشليم "مدينة السلام" وجدت في حقبة ما قبل المسيح في اليمن حيث كانت بداية التاريخ اليهودي الذي دوّن في التوراة لاحقاً. فاذا كانت القدس في فلسطين هي غير "أورشليم" التي كانت في اليمن، فإن هذه المغايرة لا تجعلها "عربية – اسلامية" كما وصفها الاّ في مرحلة لاحقة وبعدما غزاها المسلمون واحتلوها في مرحلة غزواتهم الأولى خارج الجزيرة العربية، ولا يمكن ان ينزع عنها صفتها اليهودية – المسيحية بشحطة قلم، فهي كانت يهودية باعترافه ان اليهود بعدما سيطر الرومان على مواقعهم ومناطقهم في اليمن هاجروا في اتجاه المناطق الاخرى سواء داخل الجزيرة بما فيها مكة ويثرب، وخارجها إلى العراق وفلسطين، وحين جاء المسيح، والتاريخ معروف ومدوّن في تلك الحقبة، جرت احداث حياته في منطلقة الجليل، وهو عاش في بيئة يهودية في القدس حيث صلب على تلة الجلجة فيها.فإذا كان يريد ان يصحح تاريخاً يتعلق بيمنية التوراة، فلا ينبغي ان يشوّه تاريخاً آخر يتعلق بيهودية القدس ومسيحيتها في المرحلة الممتدة بين 70 ما قبل الميلاد حتى بداية المسيحية بعد مجيء المسيح. ويجب ان لا يسقط في الايديولوجيا الاسلامية فيفقد علميته التي يفترض انه ينشدها، فلا تتحول مقدمته إلى بيان سياسي "القدس اسلامية عربية" كأنه يرفع لافتة في تظاهرة.
حين عرف العرب القدس كانت القدس قدساً، كما كانت مكة مكة، أي أنها كانت قائمة وموجودة وحصلت فيها كل الحوادث المرتبطة بالمسيح وبصلبه، وهو صُلب الديانة المسيحية وجوهرها، وهي انما سميت القدس بسبب تقديس المسيحيين لها قبل المسلمين.
اذا كان هدف الربيعي اثبات ان فلسطين ليست ارض الميعاد لليهود، فهو استنتاج لا خلاف عليه، بل على المؤرخين، عرباً ويهوداً، ان يستكملوا هذا البحث سواء في فلسطين أو في اليمن، وخصوصاً ان التنقيب عن هيكل سليمان، لم يوصل إلى نتيجة حتى الآن، باعتراف الآثاريين اليهود انفسهم. واذا كان هدفه البحث التاريخي أن التوراة تتحدث عن جغرافيا في اليمن وليس فلسطين، فليستكمل الجهود مع آخرين للتوصل إلى هذه النتيجة. لكن هذا الهدف أو ذاك لا يخوّلانه تشويه تاريخ المسيحيين ولا اليهود، فليسعَ إلى ابقاء البحث في إطاره العلمي وليخرج من هيمنة الايديولوجيا الدينية المسيطرة.
تقصد الربيعي ان يغفل ان المؤرخ كمال الصليبي سبقه إلى هذا البحث – ولا اعرف اذا كان هناك من سبق الصليبي – قبل اكثر من عشرين سنة، فأصدر كتابه "حروب داود" عام 1990 الذي اخذ فيه النص التوراتي "حروب داود ومآثر الجُبَرة" وطبّقه على اسماء الاماكن في اليمن التي لا يزال معظمها يتسمى التسميات عينها أو محرّفةً عنها، وهذه المرة الثانية يتقصد الربيعي اغفال اسم الصليبي، اذ سبق للأول في كتابه ان نسج على منوال الثاني في كتابه "البحث عن يسوع" الصادر بالعربية عام 1999 واغفل ذكره ايضاً! لماذا؟ لا يعقل ان باحثاً يخوض في هذا المجال الآن لم يطلع على ما سبقه اليه الصليبي! والا كيف اجرى بحثه الناقص من دون العودة إلى مؤلفات الصليبي؟!
ان الفكرة ليست جديدة، حتى طريقة معالجتها وتطبيقها تعتمد على منهج الصليبي الذي وضع خريطة للمواقع التي وردت في النص التوراتي، فيما لم نجد اي خريطة في كتاب الربيعي. درس الصليبي سِفر حروب داود، ودرس الربيعي سفر يهوذا المكابي وحروبه مع الرومان، وطبّقا الاسماء على الاماكن بحسب جغرافيتها في الجزيرة العربية ولا سيما شطرها الجنوبي الغربي على البحر الأحمر. وبعدما قرآ النص الاصلي ترجماه واظهرا اخطاء المترجمين الذين كانوا يجهلون المواضع فيسمّونها تسميات مختلفة.
يحاول الربيعي ان يثبت ان القدس هي غير أورشليم التي كانت مدينة السلام عند اليهود في اليمن في المرحلة التي تمتد منذ الالف الأول قبل المسيح، وهي التي عاد اليها اسباط اسرائيل بعد سبي بابل، وعمدوا إلى اصلاح اسوارها التي احرقت. وان أورشليم وقَدَس أو قَدَش (السين والشين في العبرية حرف واحد عند النطق) مكانان مختلفان، فثمة ثلاثة اماكن باسم قدس تدل على جغرافيا مختلفة في التوراة. ويستخلص من الرواية التوراتية عن سقوط أورشليم:
1- ان قدس – قدش الوارد ذكرها في التوراة ليست القدس في فلسطين وهي لا تدعى أورشليم.
2- القدس بحسب ما وردت في التوراة، بصورة "جبل قَدَش"، وقصد بها ثلاثة مواضع، اماكن أو جبال.
3- ان القدس ليست فوق جبل ولا قرب جبل، فيما وصفتها التوراة كجبل.
4- "ان جبل صهيون الذي يؤدي إلى أورشليم لا وجود له في فلسطين. ومن غير المنطقي تخيل اختفاء جبل من الجغرافيا أو زوال اسمه أو تحول طريقة نطقه بينما يزعم التوراتيون ان كل الاسماء الواردة في التوراة صمدت على مرّ الزمن وانها لا تزال موجودة في فلسطين منذ الفي عام، برغم ان الكثير منها مجرد آبار قديمة أو ينابيع وعيون ماء أو قرى يسهل زوالها ونسيان اسمائها".
5- ان التوراة لم تذكر اسم فلسطين قط، ولم تشر إلى اسم الفلسطينيين، انما الصراع الذي جرى في تلك الحقبة القديمة فبين القبائل اليهودية في اليمن وجماعة من قطاع الطرق يعبدون الآلهة "فَلَس" وينتسبون اليه فيدعون "فلستو" كانوا يغيرون على قطعان اليهود في الجزيرة ما استدعى الاقتتال معهم وشن الحروب عليهم.
ويقول الربيعي "ان ما يبدو تناقضاً" في النص التوراتي، ليس تناقضاً مؤكداً. فالتوراة تقدم وصفاً دقيقاً بالارتباط مع احداث في عينها، ليس فيها اي قدر من التباين بمقدار ما فيها من الالتباس الناجم عن قراءة استشراقية، طابقت بشكل تعسفي بين تاريخ فلسطين القديم واحداث التوراة. بكلام مواز، فالتوراة وبالطريقة التي جرى فيها تأويلها – هي نتاج مخيلة أوروبية استعمارية. ولذلك، يجب ان نعود إلى النص العبري لأجل تفكيكه واعادة بناء روايته. ولهذا الغرض سنعيد تحليل قصة سقوط أورشليم على يد داود الملك وتركيبها". وهذا ما قاله الصليبي في هذا الصدد.
ويضيف ان التوراة "لا تقول ابداً ولا بأي صورة من الصور، ان الاحداث التي ترويها جرت أو دارت في فلسطين. كما انها لا تشير لا من بعيد ولا من قريب إلى اسم فلسطين أو الفلسطينيين ارتباطاً بالأحداث المروية فكيف امكن "تلفيق" رواية استيلاء القبائل العبرانية عليها؟ ومن هي القبائل العبرانية التي زحفت مع موسى من مصر نحو فلسطين؟ ومتى؟ واين؟ وكيف؟ وما المقصود باتحاد القبائل الاسرائيلية؟ ان التاريخ لا يعرف اي شيء حقيقي عما يدعى "قبائل عبرانية" سوى ما ورد في قصص التوراة، بل ان التوراة لا تقول ان نصوصها مكتوبة "بلغة عبرانية" أو ان القبائل الوارد ذكرها هي قبائل عبرانية".
يسمّي الربيعي اسماء القبائل اليهودية العائدة من سبي بابل إلى أورشليم وكلها قبائل يمنية، ويلغي التحريف الوارد في اسمائها بين العبرية والعربية، فيظهر انتسابها إلى جغرافيا اليمن، وعددها 25 قبيلة.
ثم يتحدث عن سعي نحميا إلى بناء ما تهدم من أورشليم في سراة اليمن، والأماكن التي ذكرها في أثناء تفقده اسوار المدينة المهدمة التي تتطابق مع أسماء الاماكن في اليمن حالياً، وقد ورد ذكر هذه الأماكن في غير التوراة من الكتب الجغرافية التراثية، ككتب إبن العبري والهمداني وإبن الكلبي وغيرهم. وليس لأسماء هذه الاماكن والقبائل شبيه في فلسطين. ثم يروي مجريات الصراع بين القبائل اليهودية والقبائل العربية في "بيت الفلس"، فيضعها في إطار الصراع الديني بين اليهود الذين يعبدون إلهاً واحداً والعبادات الوثنية ممثلة بالإله فلس، والذين يدعون "الفلست" أو "الفلستيين". وصفتهم التوراة بأنهم من "آكلي السلحت" اي الحرام، علماً أن الصراع بين الطرفين كان طابعه اقتصادياً وليس دينياً كما ذكرنا سابقاً، فأسقط الربيعي توهماته الدينية عليه، ففيما كان "السلحت – آكلو الحرام" يغزون أراضي اليهود للنهب والسرقة، كان هؤلاء يدافعون عن أراضيهم. أيجب أن نجعل الله أو أي اله في كل صراع؟ ألا يتقاتل البشر على شؤونهم الدنيوية، إلاّ على قضاياهم الدينية؟!
وقد كان سدنة بيت الفلس أباحوا لأتباعهم الإستيلاء على حيوانات القبائل وممتلكاتهم بالقوة وضمّها إلى بيت العبادة. وبعد مئات السنين كان على الإسلام الناشئ أن يرسل حملة عسكرية بقيادة خالد بن الوليد في السنة التاسعة للهجرة من أجل القضاء على قبائل الفلس وتدمير بيت عبادتهم.
وأخيراً يتحدث عن الصراع بين الرومان واليهود في اليمن، خصوصاً أورشليم بحسب رواية "سفر المكابين" التي استمرت نحو مئة سنة،
في هذا الفصل أعدّ قائمة بأسماء المواضع الواردة في نص المكابيين وقاربها مع الأسماء الواردة في قائمة الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب"، كما قارب بين الرواية التوراتية ونصوص إبن العبري عن يهوذا المكابي و"بلاد اليهودية"، ثم قارب الوصف التوراتي لبلاد اليهودية مع وصف الجغرافي اليوناني بطليموس الذي نقل الهمداني شهادته، ثم حدد المكان الذي أعطى يهوذا لقبه "المكابي"، كما أعاد نسب الفرقتين اليهوديتين "الحسيديين" و"الحشمونيين" إلى أسرهما التاريخية.
أخيراً، فإن الحروب الرومانية في الجزيرة العربية خصوصاً مع اليهود، أرغمت القبائل على الهجرة إلى بلاد الشام. يقول الربيعي: "والتاريخ المقبول من وجهة نظرنا لبداية تدفق القبائل العربية العارية بما فيها بقايا قبيلة بين اسرائيل من يهود اليمن وسواحل البحر الأحمر وتهامة ونجد واليمانة نحو جنوب الشام (فلسطين) يجب أن يكون في حدود 130 ق. م. وليس قبل ذلك. لأن المعارك كانت لا تزال مستمرة بقوة وزخم حتى هذا الوقت بين القبائل العربية اليهودية بقيادة يهوذا المكابي والقوات الرومانية الغازية".
أعتقد أن مئة وثلاثين سنة، وقد يكون أكثر، كافية لئلا ننكر الوجود اليهودي في فلسطين، في تلك الحقبة التي استمرت حتى مجيء المسيح، وتالياً لا يمكن نفي الحوادث التاريخية التي حصلت في فلسطين آنذاك والمؤرخة في الكتب، ولا يمكن الغاء الوجود اليهودي – المسيحي في العهد الروماني في فلسطين، ولا يمكن التشكيك في الرواية المسيحية عن القدس ودورها في التاريخ المسيحي الذي نما في الحضن اليهودي .
......................................................................................