الثورة الفلسطينية الثالثة (مصير الثورة الأولى ومسار الثورة الثانية وبرنامج النضال الوطني

المدير العام العمر : 59 *المزاج* :

ناصر قنديل
إذا كان من الصعب التأريخ لميلاد الثورة الفلسطينية الأولى في مواجهة المشروع الصهيوني إلا أن تاريخ ميلاد الثورة الأولى بعد قيام الكيان وإعلان دولة إسرائيل عام 1948 متفق عليه باعتباره 1-1-1965 تاريخ الرصاصة الأولى لحركة فتح ، تعبيرا عن اليأس من قدرة النظام العربي على استعادة الأراضي الفلسطينية بعدما كانت هزيمة الجيوش العربية في العام 1967 إيذانا صارخا بهذا العجز، ومعلوم يومها أن منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست منتصف عام 1964 برئاسة أحمد الشقيري وحضور الملك الأردني في فندق انتركونتينتال في القدس، كانت إطارا مختلفا عن الفصائل التي اتخذت العمل الفدائي أو المقاوم طريقا لتحرير فلسطين ، وكانت المنظمة كإطار فلسطيني مولود من رحم النظام العربي الرسمي آنذاك، بديلا عن حكومة عموم فلسطين التي أعلنت في تشرين الأول عام 1948 من قطاع غزة برئاسة المفتي الشيخ أمين حلمي عبد الباقي .
إستمر الإزدواج بين المنظمة والثورة حتى شباط العام 1968، عندما دخلت الفصائل الفلسطينية التي تمثل الثورة الأولى إلى المجلس الوطني الفلسطيني الرابع، وشهد مسار الثورة الفلسطينية الأولى منذ ذلك التاريخ تعرجات مختلفة ، لكن بقيت إستراتيجية هذه الثورة الأولى، تقوم على بناء قواعد مقاتلة للفدائيين الفلسطينيين في الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة، للقيام بعمليات تسلل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة وتنظيم عمليات خارجية في عواصم العالم و مدنه تستهدف المصالح الإسرائيلية، وكل ذلك بهدف استنزاف الكيان الغاصب لفلسطين وإفهام العالم أن القضية الفلسطينية حية ولم تمت مع هزيمة الجيوش العربية العام ،1967 وعلى العالم أن لا يراهن على تقادم الزمن لموت هذه القضية .
مرت الكثير من المياه في هذا النهر وتغيرت العديد من الساحات والخيارات ،من معركة الكرامة وأحداث أيلول في الأردن، إلى اعتماد لبنان ساحة رئيسية للنضال الفلسطيني ،مرورا بتظهير برنامج سياسي فلسطيني، بحيث كان العام 1974 مفصلا هاما حيث تكرس مسار الاعتراف بالمنظمة كإطار لهذه الثورة وممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني عربيا وتوج بالاعتراف الدولي، عبر اعتلاء رئيس المنظمة وقائد الثورة في هذا العام منصة الأمم المتحدة، كما شهد هذا العام إقرار البرنامج المرحلي للنضال الوطني الفلسطيني ،والذي أصبح فيما بعد البرنامج الإستراتيجي والقائم على قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة العام 1967 .
منذ ذلك التاريخ بدأ مسار الحرب الأهلية في لبنان وتورط المنظمة كإطار لهذه الثورة الأولى في هذه الحرب، والتي انتهت من زاوية الدور الفلسطيني فيها مع الإجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، حيث جرى اتفاق فيليب حبيب كمبعوث شخصي للرئيس الأميركي رونالد ريغان، والذي قضى بترحيل قادة ومقاتلي المنظمة من لبنان، مؤرخا بذلك نهاية مرحلة تاريخية مهمة ،سقط معها خيار الاعتماد على بناء القواعد العسكرية في دول الطوق لتنظيم العمل الفدائي باتجاه الأرض المحتلة أو باتجاه العالم، وبالتالي رغم التغييرات التي شهدها لبنان وسقوط إتفاق فيليب حبيب ومعه إتفاق 17 أيار 1983 الذي وقعه الحكم اللبناني الآتي على الدبابة الإسرائيلية، إلا أن العمل الفدائي لم ينهض مجددا بغض النظر عن الأسباب والظروف .
سقوط خيار العمل الفدائي من الخارج والسبات الذي عاشته الثورة الأولى، وما رافقهما من تعديلات في البرنامج السياسي للمنظمة وتكتيكاتها، بلغ الذروة مع إتفاق أوسلو والعودة المدنية إلى الأراضي المحتلة العام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة على حصان الانتفاضة الفلسطينية الأولى ، وجاء التعثر تلو التعثر في مسار أوسلو وتعسرت ولادة الدولة الفلسطينية الموعودة ، وكانت مفاوضات طابا وكامب ديفيد عام 2000 برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون علامة الموت السريري لخيار التفاوض دون مقاومة، لتتوج في العام 2002 بإنهاء إسرائيل لهامش الوجود الأمني والسياسي للسلطة الفلسطينية المولودة من رحم أوسلو، عبر إجتياح مناطق وجود السلطة وفرض الحصار على رئيسها، وصولا إلى إلزامه بإسناد رئاسة الحكومة إلى المفاوض الفلسطيني في إتفاق أوسلو محمود عباس والتنازل عن الجزء الرئيسي من الصلاحيات إلى رئاسة الحكومة .
عمليا كانت نهاية الثورة الفلسطينية مع رحيل القائد التاريخي لهذه الثورة ياسر عرفات مسموما ، وتحول المنظمة المدنية والسلطة المنبثقة عنها إلى شبيه مستنسخ لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل العام 1968 أي قبل أن تدخل إليها الفصائل المقاومة ، في أحسن أحوالها ، وحفظ الفوارق واجب تفرضه الأمانة التاريخية، ذلك أن تلك المنظمة قبل العام 1968 ولدت للحفاظ على الهوية والقضية بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولم تكن بعد قد ولدت صائل المقاومة الفلسطينية، ولمجرد ولادة الثورة الأولى تنازلت المنظمة طوعا للثورة وسلمتها الأمانة، بينما المنظمة في وضعها الراهن وضعت علنا أحد أهدافها مكافحة العمل المقاوم الذي ولد في زمانها وعزلته عن أطرها ومؤسساتها ، مما جعل ولادة الثورة الفلسطينية الثانية مصدرا لازدواج معمر بين الثورة والمنظمة خلافا للمرة الأولى .
مع ترحيل الثورة الأولى عن بيروت والسبات الذي عاشته القضية الفلسطينية بين العامين 1982 و1987 تهيأت الظروف للولادة الثانية للثورة، وركيزتها العمل المقاوم من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتزامن هذا الخيار مع الإعلان عن تأسيس حركة حماس في نهاية العام 1987 الذي شهد إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، التي سميت بإنتفاضة الحجارة في آب العام 1987 ، والتي إنخرطت فيها جنبا إلى جنب حركة فتح التي شكلت القوة الرئيسية في الثورة الأولى مع الحركة الناشئة التي ستصبح القوة الرئيسية في الثورة الفلسطينية الثانية .
جاء إتفاق أوسلو العام 1993 ليفرق الصفوف التي جمعتها الانتفاضة الأولى، والتي تعمق الإنقسام بينها رغم اللقاء الذي تجدد مع الانتفاضة الثانية في أيلول العام 2000 والتي عرفت بإنتفاضة الأقصى ،والتي أرَخت لدخول العمل المقاوم بصورة واضحة في برنامج الثورة الثانية ، وتظهير التباين بين مسار الرهان على الإنخراط في العلاقة السياسية مع إسرائيل مع تداعياتها الأمنية على المقاومة عبر الرعاية الأميركية وعناوينها العربية المعروفة، ومسار الإعتماد على خيار المقاومة أو ما جرت تسميته من فريق السلطة بعسكرة الإنتفاضة .
جاءت ثمرة خيار المقاومة في العام 2005 بإعلان الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة حيث المعقل التاريخي لحركة حماس، لتعطي الثورة الفلسطينية الثانية قاعدة ارتكاز تشكل جزءا من الأرض التاريخية لفلسطين للمرة الأولى، وجاءت الثمرة الثانية لهذا الخيار عندما توج الفلسطينيون في الأراضي المحتلة العام 1967 حركة حماس بأكثرية نيابية وازنة، في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني مطلع العام 2006 كتعبير عن لا مشروعية إنخراط السلطة في رهانها على التفاوض ،ولا مشروعيتها في خيار إبعاد وعزل قوى الثورة الثانية عن مؤسسات المنظمة .
الحرب التدميرية والإلغائية التي تعرض لها قطاع غزة خلال الأسابيع الماضية كانت حربا لإنهاء الثورة الفلسطينية، بعدما أصبحت غزة رمزيتها وقاعدة إرتكازها وبعدما نجح مشروع ترويض الثورة الأولى ، وإنتصار الثورة الثانية في هذه الحرب وصمود الشعب الفلسطيني الأسطوري وراء خياراتها، يؤكدان موقعها المرجعي في التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني .
الحرب لم تنته طبعا والمسار المتعرج لوقف النار في غزة سيستمر وقد يتعقد أكثر مع وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية ، وهو مسار سيشبه إلى حد كبير مسار فرض إحترام تفاهم نيسان 1996 الذي إنتزعته المقاومة اللبنانية عبر صمودها بوجه حرب عناقيد الغضب، وحاول نتنياهو إطاحة بنوده بما هي شرعية المقاومة وتحييد المدنيين على جانبي الصراع بعد ترسيخ توازن الرعب .
قد لا تملك المقاومة الفلسطينية في غزة ذات عناصر توازن الرعب التي توفرت للمقاومة اللبنانية، بفعل فوارق الجغرافيا السياسية، حيث السند الذي مثلته سوريا للمقاومة في لبنان في مقابل شراكة النظام المصري في الحصار على المقاومة تحت عنوان الإتفاقات والقرارات الدولية، و تقديم حصول المقاومة على السلاح كجريمة إسمها التهريب ، لكن المقاومة في غزة نجحت في بناء توازن رعب من نوع آخر لم يتح للمقاومة اللبنانية، بفعل الحرب التي أعلنت عليها ثقافيا وإعلاميا وتقديمها كجسم غريب عن الجسدين العربي والإسلامي ، وكما شكل سيشكل التضامن الشعبي داخل غزة والتغييرات الجوهرية التي أصابت المشهد السياسي الدولي والإقليمي أمام المذبحة الإسرائيلية المفتوحة على المدنيين، مصدرا لردع من نوع لا يقل إن لم يزد أهمية عن الردع الذي أتاحه نوع وكم السلاح للمقاومة اللبنانية، حيث التحالف العربي الدولي الذي نشأ في قمة الدوحة وخصوصا التحولات السريعة في موقع تركيا كتعويض عن الخذلان العربي الرسمي في قمة الكويت ، وما حدث في دافوس يقول لمن يريد أن يعرف ماذا تعني تركيا ، والنهوض الشعبي العربي والإسلامي والتحركات الشعبية والحقوقية في أوروبا وتفاعل أميركا اللاتينية حكومات وشعوب ، وظهور ملامح مشهد جديد في الرأي العام الأميركي للتحرر من الهيمنة العمياء للتضامن مع إسرائيل ، وتحرر الشارع الأوروبي من عقدة المحرقة والعداء للسامية .
كل الوقائع تقول أن الحكومة الإسرائيلية الحالية أو المقبلة ستفشل في محاولات كسر الثورة الفلسطينية الثانية ، كما تقول الوقائع أن هذه الثورة الثانية ستنتصر في نهاية مسار متعرج بفرض معادلة شبيهة بمعادلة تفاهم نيسان على الإحتلال، لجهة شرعية المقاومة وتحييد المدنيين وفك الحصار وفتح المعابر ،لكن ستكون هذه الثورة قد حققت أهدافها بتحرير قطاع غزة تحريرا ناجزا ، لكن لن تستطيع هذه الثورة الثانية بأدواتها الراهنة إستكمال المهام الجسام التي تحملها على أكتافها لجهة الأمانة لقضيتي التحرير والعودة .
الثورة الفلسطينية الثالثة باتت ضرورة وطنية فلسطينية، وهذا ما لم يغب عن بال قوى المقاومة، وقد دشن الإعلان عن ذلك المناضل خالد مشعل ورفيق دربه الدكتور رمضان عبدالله شلح، بالدعوة لبناء قيادة فلسطينية جديدة تتناسب في تكوينها ومؤسساتها وأهدافها مع تطلعات الشعب الفلسطيني .
وهذا ما أكده المناضل فاروق القدومي ورفاقه المتمسكون بخيار المقاومة من رعيل الثورة الأولى ،وخصوصا المناضلين من أمثال أحمد جبريل وهاني الحسن وأبو موسى، ، والثورة الثالثة تمتاز عن الثانية بكونها لن تجد تنازلا طوعيا من الممسكين بمنظمة التحرير يفسح المجال لحديث الوحدة الوطنية الفلسطينية والمصالحات ،التي باتت شعارا يجري إستخدامه لإبتزاز المقاومة وتخفيض سقف برنامج المقاومة وتكبيلها ، والثورة الثالثة معنية بصورة أساسية، مع الحفاظ على مكتسبات النصر في غزة وتعزيزها ،بجعل الضفة الغربية قبلة أهدافها لإستنهاض الإنتفاضة وإعادة بناء المقاومة في ظروف، يجب الإعتراف أنها تشبه ظروف العمل في الشريط الحدودي اللبناني الذي كان تحت الإحتلال، من ضمن معادلة أمنية شاركت فيها مجموعات لبنانية إرتضت التعاون مع الإحتلال .
الثورة الفلسطينية الثالثة معنية ببناء جبهة وطنية للمقاومة كي تتمكن من إنجاز المهمة في الضفة الغربية ،لكنها معنية بقيام الجبهة الوطنية لتحصين وتفعيل النضال الفلسطيني في الشتات، لرد الإعتبار لمكانة شعار عودة اللاجئين إلى ديارهم كأولوية فلسطينية تتلازم مع قضية تحرير الأرض، إن لم تتقدم عليها، وكل من الهدفين إنسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة العام 1967 وضمان حق العودة مسلم بهما في المرجعيات القانونية الدولية، ومعهما يتقدم شعار حق تقرير المصير كحق ثابت في المواثيق الدولية، سواء وفق خيار الدولة المستقلة أو خيار الدولة الواحدة الديمقراطية مع من يبقى من اليهود الذي يمنحون حق العودة من حيث جاؤوا مع التعويض .
البرنامج الوطني الفلسطيني للثورة الثالثة ملزم من موقع الأمانة التاريخية أن يضع الدولة المستقلة كخيار أمام الشعب الفلسطيني وليس كإلزام له، فتقرير المصير مستحيل قبل العودة، لأن تقرير المصير رهن وفق القوانين الدولية بحرية الإختيار ،وهذا شرطه العودة في ظروف أمنية وقانونية تضمن هذه الحرية ، وفي كل الأحوال لا يستطيع البرنامج الوطني الفلسطيني إذا أراد تقديم خيار الدولة المستقلة تجاهل القرار181 الصادر عام1948 الذي يضع حدود التقسيم بين الدولتين ،ومصير القدس الغربية مع التسليم بكون الراضي المحتلة عام 67 خارج نطاق البحث، وخصوصا الحدود الفلسطينية المصرية والفلسطينية الأردنية .
الثورة الفلسطينية الثالثة تأسيسا تسير جنبا إلى جنب مع مواصلة الثورة الثانية لمهامها في تحصين عزة وتعزيز النصر وثماره ، كما سارت الثورة الثانية جنبا إلى جنب مع الثورة الأولى، لكن مع فارق أن الثورة الأولى إنتهت إلى ما هو عليه واقع السلطة اليوم، والثورة الثانية ستنجز التسلم والتسليم مع الثورة الثالثة بسلاسة الإنتقال من راية إلى راية بين أبناء خيار المقاومة.
جريدة تشرين السورية

» يوم الأرض وضرورة تصعيد النضال الوطني
» الانتفاضة الفلسطينية الأولى انتفاضة الحجارة
» نجاد في تظاهرة بمناسبة يوم القدس في ايران: الفشل مصير المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية برعاية اميركا
» عاشت الذكرى الـ 46 لانطلاقة الثورة الفلسطينية
» صور نادرة لقيادة الثورة الفلسطينية