البيت الزنزانة

قصة قصيرة للكاتب: عرفان حمد أبوهويشل

[center]البيت الزنزانة[/center]

أوقف سيارة الأجرة التي يعمل عليها في الشارع, كان الوقت ظهراً, دخل بيته .. تلقته زوجته مرحبة ولكنه كان متعباً ومرهقاً من العمل, كان متعباً لدرجة الغثيان .. عرضت عليه أن تعد له طعام الغداء، ولكنه قال:
ـ أنني متعب جداً وأريد أن أنام بعض الوقت, وبعد ذلك سأتغدى .. قال ذلك ودخل الغرفة الوحيدة, بعد أن أوصي زوجته بأن تمنع الصغار من إثارة الضجة والضوضاء .. الفصل صيف والجو حار وكان عليه أن يختار بين إغلاق الباب حتى لا يسمع صراخ الأطفال ويتحمل الحر, أو أن يفتح الباب ويسمع صراخ أطفاله, فضل الجو الحار وأغلق علي نفسه الباب وأرتمي علي الفراش .. كان متعباًُ فنام ..
صرخ في جاره النائم علي "البرش" بجانبه في الزنزانة:
ـ قم ألا تري ألاف الصراصير تخرج من الشقوق وتهاجمنا .. إن إدارة السجن اللعينة هي التي أطلقتها علينا .. ثم يا إلهي ألا تري؟! ما هذا الذباب الأزرق .. أنه يهاجمنا أيضاً .. النجدة .. النجدة ..
دخلت عليه زوجته .. متسائلة عن سبب صراخه
قال لها:
ـ بالله عليكي أسكتي الأولاد .. دعوني أنام .. إن صراخ البنت الصغيرة يشبه عواء الذئب .. خرجت زوجته وعاد للنوم ثانية .. ابتلت الوسادة من العرق فقلبها ونام ..
ـ إدارة السجن اللعينة ترفض عمل دورات مياه بالزنازين لإذلالنا .. إن بطني يؤلمني .. قد أكون أخذت برداً، عفواً أيها الأخوة سأقضي حاجتي في "الجردل" .. شدوا البطانية.
آه إنه العرق مرة ثانية مسح وجهه بالفوطة وقلب الوسادة .. الصغار لا زالوا يصرخون, ولكن في الشارع تحت الشباك .. غطي رأسه رغم الحرارة وحاول أن ينام.
طلب من المحقق أن يرفع الكيس عن رأسه حتى لا يختنق .. تظاهر المحقق بأنه سيرفع الكيس, ولكنه أضاف كيساً أخر .. إنه يختنق .. يختنق.. صرخ..
دخلت عليه زوجته.. سألته عن سبب صراخه .. تظاهر بأنه لم يسمع سؤالها .. طلب منها أن تغلق الباب وعاد للنوم .. أمسك به ثلاثة من "العصافير" (جواسيس السجن) .. ألقوا به أرضاً وبدءوا في التحقيق معه كان يعرف أنهم عملاء لم يعترف لهم فانهالوا عليه ضرباً صرخ منادياً الشاويش.
دخلت زوجته وقالت:
ـ كفاك نوماً, أن أحلامك كلها كوابيس .. إنك لم تكف عن الصراخ طوال الوقت
ـ إنني لم أصرخ إن صراخ الأطفال هو الذي منعني من النوم, علي العموم أغلقي الباب حتى أهدأ قليلاً. لا أريد النوم إنما أريد فقط أن أستريح. وضع وسادة أخري فوق وسادته, وأستلقي علي ظهره رافعاً رجليه علي الحائط وبدأ يفكر:
ـ "هذا البيت.. بل هذه الغرفة ومنافعها هي حصتي التي ورثتها من حصة أبي الذي ورثها من جدي الذي أستلمها من الوكالة في الخمسينات" يا الله كم من السنوات مرت علي ذلك .. تعالوا نحسبها؛ جدي ـ كما يروي لي والدي ـ استلم من الوكالة غرفتين عندها كان أبي وعمي أعزبان بالإضافة إلي عماتي .. العمات تزوجن وانتقلن إلي بيوت أزواجهن .. وجدي وجدتي انتقلا إلي رحمة الله تعالى, تزوج أبي وعمي كل واحد منهما في غرفة .. في سنة سبع وستين هاجر جيراننا إلي الأردن, فاشترينا بيتهم الملاصق لنا, فأصبح لنا أربع غرف .. كبرنا نحن الصغار وأصبحنا نتعارك مع أولاد عمي .. تطور الأمر فتعاركت أمي مع زوجة عمي وسالت الدماء .. اتفق أبي وعمي علي تقسيم البيت واشتركا في بناء حائط بينهما .. كبرت وكبر إخواني وأخواتي .. البنات تزوجن, وبقيت أنا وأخي .. اتفقنا مع الجيران علي إغلاق الشارع وتقاسمنا مساحته وأضفناها لبيوتنا ..
وبذلك أصبح عندنا ثلاث غرف تزوجت في غرفة واحتل أخي الغرفة الأخرى ثم تزوج فيها وتركنا لأمي والصغار الغرفة الثالثة, نسيت أن أقول أيضاً أن أبي انتقل أيضاً إلي رحمة الله منذ زمن .. كبر أولادي كما كبر أولاد أخي, وبدءوا يتعاركون انتقلت المشاكل من الأولاد إلي الزوجات. حدثت مشاكل وسالت دماء. توصلنا إلي أن تقسيم البيت هو أفضل الحلول .. تم تقسيم البيت وكانت حصتي مع زوجتي وأولادي غرفة .. بنينا منافعها أمامها وبقيت لنا فسحة بين الغرفة والمنافع (المطبخ والحمام) مساحتها ثلاثة أرباع المتر عرضاً والثلاثة أمتار ونصف طولاً ..
عندما وصل إلي هذا الحد من أفكاره سرح به الخيال وبدأ يتخيل بأنه سيبني بيتاً واسعاً، به حديقة ومراجيح لأولاده .. وسيكون مطبخ هذا البيت واسعاً بحجم غرفته التي ينام فيها مع زوجته وأولاده. بل جمح به الخيال بأنه سيبني بيتاً من طابقين .. سينام في الطابق العلوي ويترك الأطفال يلعبون في الطابق السفلي .. فجأة فُتح باب الغرفة, واندفعت زوجته وأولاده وبعض أطفال الجيران .. هب فزعاً.. وقبل أن يسأل قالت زوجته:
ـ إن الشباب يطلبونك لتوصيل الجرحى للمستشفيات .. لقد بدأت المواجهات أمام المستعمرة القريبة, ويقولون بأن الإصابات كثيرة .. قفز .. ارتدي ملابسه بسرعة, ركب سيارته وقد نسي كل شيء عن بيته, وبدأ يفكر في المستعمرة والمصابين.

(من مجموعة "الخبز والدم" للكاتب عرفان أبوهويشل سنة 1999م)