سقطت الريشة إيلي كنعان معماري الألوان ومايسترو التجريد الذي ترك فسحة للواقع

المدير العام العمر : 59 *المزاج* :

احمد بزون

من جيل شفيق عبود وسعيد أ. عقل وعارف الريس وأمثالهم من الذين كَبُرَ بهم الفن التشكيلي اللبناني، قبل أن يرحلوا تاركين بصماتهم في الضوء. لكن كان على الفنان الراحل إيلي كنعان أن يكدح في البداية ويتعلم على نفسه، فيقيم معارض عدة كان أولها قبل ستين عاماً، لينخرط بعد ذلك في الحياة الأكاديمية، ويقصد باريس بمنحة دراسية، إثر جائزة نالها من وزارة التربية في معرض الربيع العام 1958. ويتعرف إلى الفنانين جاك فييون وإيف ألكس فيصبحان صديقين له.
لم يكن إيلي كنعان، الذي سقطت
الريشة من يده ليل أمس الأول السبت، يجيد العلاقات العامة، ولا يعرف كيف يثير ضجة إعلامية، حتى أنه كان قد رسم الكثير من أعماله أثناء الليل. فهو اختار بعض العزلة ليخلص لفنه فلا يضيّع الكثير من الوقت، على أن جديته تلك جعلته يقاسم عارف الريس وحسين ماضي جائزة الرسم في متحف سرسق العام 1966، ثم ينال الجائزة الأولى في دورة تالية عن الرسم إلى جانب سلوى روضة شقير عن النحت. ذاك هو صف الفنانين الذي كان كنعان ينتمي إليه.
حتى أنه لم يكن خطابياً وضاجاً في ما يرسم، إذ اختار التجريد ليحتل مساحة لوحات الزيت والغواش والأكواريل التي أنتجها، لكنه ابتعد عن التجريد الصافي، ورفض أن يكون منتسباً إلى المدرسة التعبيرية التجريدية، فهو بعيد أساساً عن الالتزام بمدرسة فنية بعينها، وقد كان مهموماً بالواقع، لكنه لم يطلقه بوضوح وتصوير تشبيهي، بل كان يقود تجريده نحوه، يلامسه ويبنيه ليُظهر ملامحه ويصوّر تفاعله معه لا طبيعته في الخارج. لم يكن أيضاً انطباعياً وإن كان يرحب بالانطباعية، فهو لا يطمح إلى اكتشاف ألوان الطبيعة التي يصورها، بل يترك النور يخرج من داخله، ليعبر عن توتره وفصول أمزجته.
إيلي كنعان ملوّن ماهر، منفتح على المدارس الفنية، يجمع في ضرباته بين التوتر والعفوية من جهة، والإمساك بالمساحة والسلطة عليها من جهة أخرى، لتكون ولادة الأشكال طبيعية. لكنه، في أي حال، يبني ألوانه بشعرية غنائية، ويصور الطبيعة والناس بالكثير من الحرص على إبراز الموضوع، وإن كان بمقاربة شبحية.

بعد ستين معرضاً وستين سنة من عمر سيرته الفنية رحل تاركاً آخر معارضه مشرع الأبواب


من معرضه الأخير (بلال قبلان)

صحيح أنه ابن الثالثة والثمانين من عمره، إلا أن لوحته بقيت حتى آخر معارضه تنبض بروح الشباب، وتتمتع بدينامية نادرة، بل تحلّق بجناحين، بعض جنون في ضربات التجريد وبعض دقة في دفع أمواج اللون نحو تظهير الواقع. ثم إن هذا الثمانيني لم يكن ليهدأ أو يتقاعد أو يتقاعص عن أداء مهمته الفنية ومتابعة سيرته الإبداعية، بل استمر بعطاء غزير، وبقي منغمساً في الألوان حتى سقطت الريشة من يده. غادرنا ولا تزال الحياة تدب في آخر معارضه الذي نفترض أنه يستمر لغاية العشرين من كانون الأول الجاري، بحسب الدعوة إليه.
اتصل بي ظهر أمس الأول، السبت، وسألني، بتهذيبه المعهود، عن السبب في تأخر نشر موضوع عن معرضه الأخير، «عله خير». إذ كنت زرت هذا المعرض في «أتيلييه 85»، الأشرفية، والتقيت زوجته فيه، ووعدتها بأن ينشر المقال صباح السبت، إلا أن أسباباً مهنية حالت دون ذلك. لكنه كعادته، لم يكن ملحاحاً، بل سبق الاعتذار الخجول سؤاله. كأنه كان ينتظر أن أودعه بمقالتي. قلت تقرأه صباح الاثنين، لكن بصره لم يمتد إلى هذا اليوم، وقد أغمض عينيه مساء السبت، وارتحل إلى خالقه بهدوء تام.
كعادته في أكثر الاتصالات التي كانت بيننا في كل مناسبة، سألني عن الوضع السياسي والأمني في لبنان. لكن الغريب أن صوته كان متفتحاً ونقياً كعادته، وتخيلت البسمة على شفتيه عندما طمأنته بإجابتي. رغم كبره فاجأتني وفاته، حيث كنت أحضّر لنشر مقالتي عن معرضه، وبتّ أحضّر لنشر مقالة عن سيرته الصاخبة. نعم هي صاخبة لكن من دون هيصات إعلامية، ومن دون حذق في بناء عمارة علاقات عامة. بقي، وهو أحد الكبار في الفن التشكيلي اللبناني متواضعاً، ومتوارياً في محترفه، بين إقامتين، في بيروت وباريس، حيث أكثر معارضه ونتاجه، إلى جانب عدد عرضه في صالات أجنبية شتى.
أفقية التجربة
غاب الفنان إيلي كنعان بعد ستين سنة على المعرض الأول الذي أقامه في غاليري عودة في بيروت العام 1949. وأكثر من ستين سنة من معاركة الفن والإبداع فيه. ثم أن معرضه الأخير حمل هو الآخر الرقم ستين في معارضه الفردية بين لبنان والخارج، إلى جانب الكثير من المشاركات التي حصد عن بعضها الجوائز.
لم يكن معرضه الجديد، ولا معارضه السابقة انقلابية، فالتجديد بالنسبة إليه لم يتخذ معنى انقلاب مرحلة على أخرى، إنما هو استكمال لخط مسيرة فنية نَمَتْ بالتعب والبحث والسفر والمعاناة والتجربة، وتطورت من خلال معايشة الفن من داخله.
وبما أننا أمام ستين عاماً وستين معرضاً من الدأب المتواصل، يحق لنا أن نتحرى عن المراحل التي مرّ بها الفنان، أو عن الأساليب التي استخدمها، أو المدارس التي تنقل بينها... لكنها أسئلة عقيمة، كون إيلي كنعان اختار طريقه منذ البداية، فرمى نفسه في أحضان الغنائية، التي لا تلتزم حدود التجريد بل تتخطاها نحو ملامسة الواقع، من خلال تصوير الطبيعة والعالم من حوله، ووضع عناصرهما عناوين لأعماله. يطغى التجريد على المنظر فتغيب معالمه وهيئته وإن بقيت روحه، أو تظهر الأشكال وتحضر فتقوى بها تعبيرية الألوان. إنه ميزان تلك الغنائية الذي ترتفع فيه كفة وتنخفض أخرى أو تتساويان لا فرق، فنفس الفنان لا تهدأ عند صيغة ثابتة، حتى لو كان التطور في تجربة كنعان أتخذ شكلاً أفقياً لا عمودياً.
الشاهد على ذلك أن المشاهد لا يستطيع بسهولة الفصل بين لوحة قديمة وأخرى جديدة في المعرض نفسه. خصوصاً أن الفنان اعتاد منذ البداية إهمال تسجيل تاريخ اللوحة إلى جانب توقيعه، ولا حتى على ظهر اللوحة، فهو يعتمد على ذاكرته في إضاءة عمر اللوحة، لكن الذاكرة أخذت معها كل شيء وبات من الصعب الفصل الدقيق في أعمار أعماله، ما يجعل مهمة الباحث في نتاجه صعبة من هذه الناحية. حتى أن كنعان يتقصد في كل معرض من معارضه وجود بعض اللوحات القديمة، ففي معرض له شاهدناه العام 2005 عرض لوحة من العام 1957، ليؤكد ما نقول، وقد عرض مع جديده اليوم بعض اللوحات التي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. قد نجد بعض المعارض وقد طغى عليه التجريد الذي يحوّل اللوحة إلى أشكال مفككة هائمة وغيمية، أو يعبر عن اكتفاء الفنان بالانغماس الكلي في اللون، أو لنقل انغماسه في عالمه الداخلي الذي يندر البوح فيه، إلا أن الغالب في تجربة الفنان الراحل هو التلميح بالأشكال، ناساً وطبيعة وفرحاً وحزناً، بل تكوين اللوحة على هيئة منظر طبيعي له زواياه وأبعاده الداخلية، لكنه منظر يضج بالحركة الدينامية والتوتر الذي يتركنا أمام ضربات ريشة سريعة وأحياناً عنيفة، ودائماً تبدو محكومة بداخل الفنان لا بفوضى خارجية أو عبث أو تهور أو عدمية، فضاربها بات محترفاً في رميته وإصاباته.
حرارة داخلية
واضح أن الفنان كان يترك حواسه تتفاعل مع الألوان، فتهذبها وتتهذب بها. يبدو كأنما كان يعيش مع الألوان ويعايشها، يتركها تقوده وترفع من حرارة يده وريشته، قبل أن يستغرق في تركيبها وجعلها تتعاقب وتتواتر وتتقابل أو تتنابذ، ثم يتركها تتوالد بعضها من البعض الآخر، قبل أن تبدأ مرحلة توالد الأشكال منها. فالشخص أو الأشخاص الذين يظهرون في اللوحة ليسوا إلا نتاج مخاض الألوان وتمويجها ورفع حرارتها الداخلية.
لا نرى في المعرض لوحة مسطحة، بل يقودنا تكوينها دائماً إلى عمق بعد عمق، حتى يجد المشاهد نفسه متورطاً في عالم اللوحة، فالحياة داخلها دافئة وعلى قدر كبير من الحميمية، تجعل فضاء اللوحة مفتوحاً على التأمل والشعرية والغنائية.
المبدأ في لوحات كنعان إذاً، هو «اللون أولاً»، ثم تأتي الأمزجة والإيقاعات والموضوعات ويأتي العالم الخارجي. اللون هو صاحب السلطة، وفن التلوين لدى كنعان هو الفن، لذا ذهبت التجربة في حراك أفقي كما أسلفنا، فالفنان بقي يبحر في الألوان ويتوسع بها، أي بقي يستكشف أسرارها ويحكها، بقي يتحسسها ويشمّها ويتذوقها وينصت إلى موسيقاها وحشرجتها حتى آخر رمق في ريشته، كان يفعل كل ذلك ليبلور بها عالم لوحته، عالمه الداخلي أو العالم من حوله. هكذا كان يتكامل الخاص والعام أو الذاتي والموضوعي في نتاج كنعان. ولن نستغرب، فالحياة، أساساً، أو الطبيعة ليست موجودة من دون الألوان.
لهذا لا نجد إيلي كنعان يغالب اللون أو يعترضه أو يسيّله في غير مجراه، لكنه تعامل معه كمن يجاريه ليخدعه في النهاية، يجاري حساسيته ونوعيته ولمعانه أو ظلمته، وهو لم يتركه على تلقائية حركته، بل كان يزيح جريانه واتجاهه، كمن يركب التيار ليستطيع تحويله. هكذا تختمر قدرة الفنان على التحكم بحركة الألوان، وقدرته بالتالي في أن يصبح مايسترو يقود العناصر والتفاصيل في خدمة التأليف العام للوحة. هنا لا بد من الفصل بين كثرة الألوان وغناها، فالغنى اللوني يقاس بالقدرة على فهمها، وبالتالي تطويعها والتعامل معها، لتلبي الغاية التي يطمح إليها الفنان. على أن اللون، في الأساس، ليس مطية الفنان أو حامله للوصول إلى غايته أو هدفه، ولا هو وعاء الشكل، إنما العكس، هو موجود قبل الفنان وبعده، تتشكل منه الحياة، وما على الفنان إلا أن ينبري لخدمته، بالمعنى الانطباعي الذي نراه يتعايش في لوحة كنعان مع المعنى التعبيري، الذي تكون فيه الألوان نائمة، وعلى الفنان إيقاظها، لتوقظ هي بدورها داخله.
بصمة خاصة
تفاعل كنعان مع الألوان هو الذي يأخذ تعبيريته إلى خلاصاتها، ذلك أنه، على الأرجح، عرف كيف يبدأ اللوحة، لكنه لم يكن يعرف كيف تنتهي. هذه ليست ثغرة بالطبع، لأن التجريد يتحكم في الكثير من مفاصل اللوحة وتحولاتها. فالتشخيص الذي يظهر في عدد من لوحاته، لا يبدو أساس اللوحة أو أولها، وبالتالي ليست الضربات التجريدية المحيطة به مجرد بناء هامشي، بل إن الأشكال الآدمية أو الطبيعية، التي نراها في هذه اللوحة أو تلك، تولد من الداخل، من مخاض التجريد اللوني أو تشابك العلاقة بين توتر الفنان وتوتر الألوان. هكذا يصبح الشكل البارز في اللوحة أشبه بصوت المغني المحتضَن بآلات النفخ والوتريات وآلات الإيقاع معاً.
هنا لا بد من الاعتراف بأن كنعان معماري ماهر للألوان، يبنيها مدماكاً بعد مدماك، وضربة بعد أخرى، يحركها بعنف أحياناً وأحياناً أخرى بهدوء، بتآلف وتناقض، بالأسود والأبيض أو بالفاتح والغامق، ويستمر في البناء حتى يظهر الموضوع وتتفتق ملامح الناس والجبال والأشجار والمشاهد الجبلية والبحرية، وما إلى ذلك من موضوعات أصرّ كنعان على تسميتها وإعطائها عناوين تدل إليها. ضربات التجريد التي يبثها في لوحته ليست هادئة دائماً، بل تبدو أحياناً مجنونة، على أن كنعان كان يستطيع أن يروّض جنون ريشته، ويخضعها لموازين الدقة في التأليف والبناء المتوازن، بعيداً عن الأكاديمية أو الالتزام بموازين هندسية، فهو يفلت نبضات ريشته، ويترك لها أن تتحرر من كل شيء، سوى الحرفة العالية وجماليات البناء البصري الجاذب، الذي لا يلغي المتعة لمصلحة قوة التعبير، بل يؤلّف بينهما ويحركهما معاً.
وإذا كان كنعان اهتم بالطبيعة الجبلية اللبنانية، فهو لم يصور الواقع كما هو، ولم يبحث عن النور الموجود في الخارج، فالنور ينبع من داخله، ومعروف أنه رسم الكثير من لوحاته ليلاً، خصوصاً لوحاته الباريسية. فالنور هو روح اللوحة والسلطة التي يريدها له الفنان فيها, وهو لا يصوّر في أعماله فصول السنة، بل فصوله ومناخاته الخاصة، حزنه وفرحه، وخوفه من انقلاب سفينة لبنان المترنحة بين أمواج عاتية.
لم تحمل لوحة إيلي كنعان إلينا فناً جديداً، وهو لم يكن صاحب مدرسة تشكيلية بالطبع، لكنه في الوقت ذاته لم يكن ملحقاً بشفيق عبود أو سواه من فناني الغرب كما يرى البعض، فعبود نفسه، الذي كان صديقاً لكنعان اعتبره مختلفاً عنه. قد نجد خطوط توافق مشتركة تشكل قناعة عامة لدى فنانين كثر، إلا أنه وسط هذا التشابه «المدرسي»، لا بد من التمييز بين الخصوصيات، وإيلي كنعان من الذين غرقوا في ذواتهم كثيراً عندما عالجوا موضوعات عامة، وغرفوا من تجاربهم اللونية، فكانوا أنفسهم، وشكلوا عالمهم الخاص وبصمتهم المميزة، ليس في الحياة التشكيلية اللبنانية وحسب، بل إن تميزه هو الذي جعل لوحته مقتناة في أكثر من مكان في العالم.
بطاقة
ولد العام 1926.
تعلم الفن على نفسه، وأقام معرضه الأول العام 1949 في غاليري عودة.
في العام 1958 حاز الجائزة الأولى في معرض الربيع، فحصل على منحة دراسية في فرنسا. بعد إقامته الفرنسية عاد إلى لبنان ليمارس التعليم في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة.
العام 1956 فاز بجائزة معرض الخريف الذي أقامته وزارة التربية. ثم في العام 1957 جائزة دانتي ألغري، ثم الجائزة الأولى لرئيس الجمهورية كميل شمعون (1958)، وفي العام نفسه نال جائزة الأونيسكو. في العام 1966 نال جائزتي فيليبس ومعرض الخريف في متحف سرسق. في العام 1967 نال جائزة فاندوم الدولية ثم جائزة معرض الخريف في متحف سرسق. في العام 1974 فاز بجائزة تي. أم. أي الدولية وجائزة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية.
عرض في لبنان وفرنسا ودول أوروبية وأميركية ودول عربية. له مجموعات في متحف سرسق والسفارة اللبنانية في باريس وفي سويسرا وموسكو ونيويورك وبلغراد والإمارات العربية، ودول أخرى.
توفى ليل السبت الماضي 4 كانون الأول، ونعاه وزير الثقافة سليم وردة. كما نعته جمعية الفنانين للرسم والنحت ونقابة الفنانين التشكيليين. يقام له جناز الثالثة بعد ظهر غد الثلاثاء في كنيسة سيدة العطايا، الأشرفية، ويدفن في مدافن العائلة في خلدة. تقبل التعازي يومي الاربعاء والخميس في كنيسة سيدة العطايا من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساء.

////السفير///

» رصد للواقع(كاريكاتيرات)
» سائد حلمي صاحب الريشة الذهبية
» يوم سقطت مدينة اللد..
» أم فلسطين وخنساء الانتفاضة رحاب كنعان
» لكي لاننسى.....يافا جميلة كنعان وارض البرتقال الحزين