الأسر الفلسطيني: الهوية والحيّز.!

الأسر الفلسطيني: الهوية والحيّز.!

الكاتب : علاء الدين أبو زينة

أول ما سمعته عن الأسر الفلسطيني، كان من أبي في الأمسيات العائلية. كنتُ طفلاً ما أزال، أتهجأ مفردات العالم. وعرفت كيف كان المستعمرون الإنجليز يخرجون القرويين الفلسطينيين في الثلاثينيات إلى ساحات القرى، حيث يدلهم «كيس الخيش» ـ الجاسوس مغطى الرأس بكيس مثقوب عند العينين ـ على الثوار أو من يمتلك قطعة سلاح، فيأسره العسكر. وحكى أبي قصة أسره هو.

وسمعت من أبي كلمة «الأسير» طول الوقت، في سياق آخر. كان، عندما أهمل حلاقة ذقني وأبدو زريّ الهيئة، يبادرني دائماً بنفس السؤال: «مالَك، أطلقت لحيتك مثل اليَسير؟». هكذا كان ينطقها ـ مستبدلاً الهمزة بالياء، بلهجة قريتنا. وكنتُ أحلقُ وأصلح هندامي الخارجيّ، لكنّ ذلك لم ينفع أبداً في هندمة الداخل الذي ظل دائماً مثل الأسير؛ مشعث اللحية والهيئة، ومعقول اليدين!

الفلسطيني أسير بالولادة؛ بالهوية! وهو إما أسير في داخل السلك الشائك المضاعف المحيط بفلسطين، أو هو أسير لحالة المنفى القسري، بلا حتى خيار العيش في داخل السلك. والمنفى غيبة غير طبيعية عن الأمن العادي المختلف، للمنزل الطبيعي الخاص، والمختلف. والنفي في الأصل عقاب على جريرة. ولذلك، يعيش الفلسطيني أسير التساؤل الدائم عن جريرته. ومع السؤال الوجودي الكوني: «لماذا جئت إلى هذا العالم بلا اختيار؟» يسأل الفلسطيني: «لماذا جئت إلى هذا العالم، بلا اختيار، وفلسطينياً أيضاً؟!»

والسؤال عبثي، ومقلق. لكنه يتردد على الفلسطيني كثيراً كلما تعثر بعقبه أو انغلق دونه باب، وما أكثر ذلك ـ لأنه فلسطيني! ولأنه فلسطيني، هناك دائماً منطقة ممنوعة، وحدود ممنوعة، ووظيفة ممنوعة، وكلام ممنوع. ولا ينفعه الهرب من التفكير بالوجودي إلى العملي: حمل جنسية أخرى وجواز سفر؛ افتعال لهجة أخرى ـ أو حتى لغة أخرى؛ الحفر بالأظافر والأسنان من أجل التفوق؛ العرض المخلص لرغبة التعايش والاندماج والتشارك بكل ما لديه... ولا ينفع! فهل هو الفلسطيني الذي يرفض العضوية في العالم، أم أن العالم هو الذي يرفضُه؟!

الأكيد أن فلسطينية الفلسطيني تورث بالجينات، تحت الجلد، وتتعزز بمواجهته بالرفض. ولذلك يتشبث بهذه الهوية المتعبة نفسها: هوية الفلسطيني، أسير الهوية! ويدافع بالمناكب في العالم المزدحم من أجل حيّزه الخاص تحت شمس الناس ـ بل ذلك الحيّز المحتلّ بالذات، لأنه كان سهمه حين توزعت أرض الكوكب، وانتهى الأمر. والآن، أصبحت كل المساحات محجوزة ومسجلة؛ ولا أحد يعطي شيئاً من حيزه لأحد بحكم غريزة امتلاك المكان. والفلسطيني؟ صودر حيزه، وأعطي صكّ ملكيته لليهودي التائه الذي «لا يحبه أحد»، ووُهِبَت للفلسطيني «حريّة» الترحال والتيه «بين الثقافات». أم أن الفلسطيني هو الذي لا يحبه أحد؟!

يا لسوأة الحيز والحدود! كل المنطقيين الذين يزورون هذا القطاع الضيق بين النهر والبحر، يقولون شيئاً واحداً: «هذه الأرض أصغر من أن تتسع لشعبين!» فلأي شعب هي؟ سؤال عملي: لكنه «شوفيني» ولا إنساني عندما يسأله الفلسطينيون؛ و«دفاع محِقّ عن الوجود» حين يجيب عنه الغرباء «العائدون» عملياً، بالاحتلال! والمعضلة أن الشعب الآخر، الذي قالوا إنه غير موجود، لا يختفي، وإنما يتعاظم، ولو في الأسر!

احتفال الفلسطينيين بيوم الأسير رمز. والمسألة ليست مختزلة فقط في ثمانية أو عشرة آلاف أسير في سجون العدو وغيره، أسلمهم سوء الحظ المضاعف إلى سجن داخل سجن. إنها مسألة شعب مأسور بالكامل في «منطقة» غير حقيقية؛ غير مرئية؛ أو لا يرغب برؤيتها أحد، على خطوط الخرائط الرفيعة بين الدول. أما الحرية، فمشروطة، بالتجربة، بامتلاك حيزك الخاص، الذي تتجول فيه أو في خارجه باختيارك، مطمئناً إلى وجوده هناك ـ في انتظارك لتعود إليه بحرية، وتعيش فيه بحرية.

اليوم، أصبح الفلسطينيون أول الثائرين وآخر الأسرى. وينسى المتصدرون التفاوض على شراء الوهم للفلسطينيين بحرية الفلسطينيين، أن إطلاق الأحد عشر مليون فلسطيني من أسرى الهوية، لا أقل ـ يتحقق فقط حين يُتاح لكل واحد منهم خيار العيش في حيزه الذي خصصته له دائرة أراضي التاريخ. أما مسوقو «الدويلة«» ـ الفكرة، الضيقة جداً، والمعتقلة أيضاً، فهم «كيس الخيش» نفسه، الذي يسلم كل الفلسطينيين للأسر الأبدي؛ ولقلق التعلق في الفضاء الرخو، بلا أرض، وتحتهم الريح.