إحياء النكبة ومحاولات منعها

عضو نشيط

الكاتب : إمطانس شحادة

أحيا
الفلسطينيون في إسرائيل في أواسط أيار (مايو) ذكرى النكبة، مرتين. الأولى
وفقاً للتقويم العبري في 10 أيار (مايو)، الذي صادف يوم احتفال إسرائيل
باستقلالها، والثانية وفقاً للتقويم الفلسطيني الرسمي للنكبة في
15أيار(مايو). ويعكس التاريخ الأول تحدي الفلسطينيين لواقعهم وقوانين
الدولة، بينما يعبر الثاني عن الانتماء والامتداد الطبيعي إلى ماضيهم
وقوميتهم، بل عودتهم إلى التاريخ أيضاً. وجاء إحياء ذكرى النكبة مختلفاً
هذا العام، محلياً (الداخل الفلسطيني) وإسرائيلياً وإقليمياً. ففي محور
فلسطينيي الداخل يتضح في كل عام تزايد الوعي الوطني وتحدي الدولة
ومؤسساتها، وخصوصاً لدى الأجيال الشابة التي برزت من خلال مشاركتها في
مسيرات العودة(1) وفي المقابل تزداد محاولات الدولة قمع هذا الوعي والسيطرة
على الذاكرة والعمل على فرض تصرف سياسي مهزوم لدى الفلسطينيين، كما يتضح
من قوانين سُنّت حديثاً في الكنيست. وهذه التحولات حدثت في العام الحالي
على أنغام الثورات العربية التي غيرت المشهد الإقليمي العربي، ورفعت منسوب
الثقة بالنفس والاعتزاز لدى الفلسطينيين في الداخل، وزادت الخوف والخشية
لدى المجتمع الإسرائيلي.

سنتابع
في التقرير بعض التحولات في مشهد تعامل الدولة مع المجتمع الفلسطيني في
الداخل في الأعوام الأخيرة، ومنها ما يتعلق بالقوانين والسياسات الهادفة
إلى منع إحياء ذكرى النكبة، وإلى قمع الذاكرة القومية التاريخية
الفلسطينية، وشرعنة الفصل العنصري، والتي بدأت تتبلور منذ انتخابات
البرلمان (الكنيست) الأخيرة في سنة 2009، وتعكس تغيراً في تعامل إسرائيل مع
الفلسطينيين في الداخل.

منذ
انتخابات 2009 وفوز اليمين الإسرائيلي بأغلبية كبيرة في البرلمان وانهيار
ما يسمى اليسار الصهيوني، تزايدت محاولات قمع الهوية الفلسطينية، وكيّ وعي
سياسي يرفض دونية المواطن الفلسطيني، وتقليص هامش العمل السياسي، ومحاولات
محو الذاكرة الجمعية التاريخية المشتركة للفلسطينيين، وفرض يهودية الدولة
بواسطة القانون الذي بات يطال الأفراد. كما تعمل الحكومة الإسرائيلية
الحالية على مطالبة الفلسطينيين في إسرائيل بحسم قضية المواطنة وربطها
بـ«الولاء للدولة» وتأكيد أن الحل القومي للفلسطيني هو إقامة دولتين واحدة
فلسطينية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وأخرى هي دولة يهودية بصيغتها
الحالية.

وبالتوازي
مع هذا جرت محاولات قمع أي تضامن وتأييد يأتيان من أفراد كالأكاديميين، أو
من مؤسسات المجتمع المدني اليهودية، التي تندرج تحت تعريف «يسار صهيوني»،
وذلك من خلال قوانين تقلص من هامش عمل تلك المؤسسات، أو بواسطة وضع عراقيل
أمام تجنيد أموال، أو عن طريق جمعيات أقيمت بصورة خاصة لنزع شرعية وجود
مؤسسات تنقد السياسات الإسرائيلية، ومَن لا ينطوي تحت سقف الخطاب الصهيوني
الجديد. وبذلك، نجد أن تحديد شروط العمل السياسي تخطى الفلسطينيين في
إسرائيل، إذ إن هناك محاولات لفرضها على ما تبقّى من أشلاء اليسار
الصهيوني.

ذكرى
نكبة فلسطين هي مناسبة لمراجعة السياسات الإسرائيلية، وخصوصاً مسلسل
التشريعات الأخيرة التي ترمي إلى رسم قواعد لعبة سياسية تفرض شروطاً جديدة
للمشاركة في «الديمقراطية الإسرائيلية». وهي تختلف إلى حد بعيد عن السياسات
العنصرية التقليدية التي استعملت حتى تسعينيات القرن المنصرم.

ومنذ
بداية التسعينيات وحتى الانتفاضة الأولى، أي فترة أوهام أوسلو، اعتقدت
إسرائيل أنها تستطيع التعامل مع قضية الفلسطينيين واحتواءهم من دون دفع ثمن
باهظ ينعكس في «يهودية أو ديمقراطية الدولة». لكن بعد هبّة تشرين الأول
(أكتوبر) (الانتفاضة الثانية سنة 2000) كان هناك تحول وإعادة تعريف قضية
الفلسطينيين في إسرائيل إلى «مسألة تتطلب حلاً واختياراً بين بديلين: أمّا
الحسم في مسألة الفلسطينيين في الداخل لمصلحة الحفاظ على يهودية الدولة
وسيطرة المجموعة اليهودية وتفوّقها، وإمّا التحول إلى دولة عادية ـ طبيعية
ديمقراطية (دولة جميع مواطنيها أو دولة ثنائية القومية)».

ويمكن تلخيص الوضع في فترة التسعينيات بالنقاط التالية:

1ـ
لم يسد اعتقاد بأن الأقلية العربية تشكل تهديداً جدياً على الدولة أو على
الهيمنة اليهودية، بل إن في قدرة الدولة السيطرة على التصرف والوعي
السياسيين للعرب.

2ـ
لم يؤدَّ الفلسطينيون في إسرائيل حينها أي دور إقليمي، وقد أخرجوا سياسياً
وقومياً من دائرة القضية الفلسطينية، وتحولوا إلى قضية داخلية في إسرائيل
يتم ترتيبها وفقاً لعلاقات القوى القائمة.

3ـ كان هناك بوادر نجاح في كيّ وعي سياسي للفلسطينيين في إسرائيل يقبل بالوضع القائم مع بعض التسهيلات وتحسين الأوضاع المعيشية.

4ـ
تركزت مطالب الفلسطينيين السياسية على المساواة في مستوى الشؤون المعيشية
اليومية عن طريق إلغاء التمييز من جهة، وإنهاء الاحتلال وإقامة دولة
فلسطينية من جهة أخرى. وتمثّل الشرخ بين العرب واليهود في كل من قضايا حل
الصراع الإسرائيلي ـ العربي، والقدس، والحدود، وإقامة دولة فلسطينية، وكذلك
في قضية المساواة من دون تعريفها أو ربطها بطبيعة دولة إسرائيل.

بعد
اتفاق أوسلو وتنامي التيار الوطني لدى الفلسطينيين، أعيد فتح ملفات سنة
1948: حق العودة؛ اللاجئون؛ السيطرة على الأراضي؛ صيغة النظام، وهو الأهم
بينها. وحدث تحول في تعريف الصراع ـ الشرخ، وجرى نقله إلى المحور الداخلي
وطبيعة الدولة ومكانة الفلسطينيين وتقاسم السلطة، وهذا تغيير جوهري. وفي
إثر هذه التحولات وهبّة تشرين الأول (أكتوبر) بدأت بوادر التغير لدى كل من
المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني في إسرائيل، وانعكست على تعامل الدولة مع
المسألة.

لقد
اتخذت أساليب التمييز ضد الفلسطينيين حتى التسعينيات مجموعة من الأشكال
عبر القوانين العنصرية وإقصاء المجتمع الفلسطيني بواسطة منح اليهود أفضلية
عن طريق قوانين الهجرة، والأراضي، والمواطنة. وكان التمييز يتركز في
السياسات، كما أنه اتسم بطبيعة بنيوية غير معلنة في مؤسسات الدولة
ووزاراتها وداخل البيروقراطية الإسرائيلية، لكن بعد هبّة تشرين الأول
(أكتوبر) 2000 تغيرت المعادلة، وبات شرعياً ومقبولاً، بل مطلوباً أيضاً، أن
تسن قوانين تمس العرب مباشرة، وبدأ التركيز على قمع الهوية والوعي القومي
بواسطة القوانين، وبدأت إسرائيل بتشديد شروط المواطنة الممنوحة للأقلية
وحدود المسموح والممنوع في العمل السياسي. ومن إسقاطات هذا التغير باتت
الدولة تستعمل سياسة عدائية أكثر وضوحاً تجاه الأقلية الفلسطينية: قضم
مستمر في صيغة المواطنة الممنوحة للأقلية الفلسطينية؛ تحديد سقف مطالب
الأقلية الفلسطينية بحيث يمكنها، في أفضل الحالات، المطالبة بحقوق فردية
وتحسين الأوضاع المعيشية من دون ربطها بالبعد السياسي القومي؛ القبول
بمواطنة تحت سقف الشروط الإسرائيلية، والتخلي عن الهوية القومية الجماعية
ومطالب الحقوق الجماعية لأقلية وطن أصلية، والاكتفاء بالحقوق الفردية
المنتقصة؛ مطالب الفلسطينيين بمنح شرعية لإسرائيل كدولة للشعب اليهودي؛
قبول الإدعاء الإسرائيلي أن تحقيق المطالب القومية للفلسطينيين في إسرائيل
سيكون فقط بواسطة إقامة دولة فلسطينية في المناطق المحتلة.

وتحاول
إسرائيل فرض هذه الشروط بواسطة قوانين، منها قوانين ذات صبغة عقاب جماعي،
ومنها، وهو الأخطر، عقاب على مستوى الأفراد. والبارز في القوانين التي سنت
في الأعوام الأخيرة هو محاولة السيطرة على التصرف والوعي السياسيين، وفرض
يهودية الدولة بالقانون من خلال تطبيقها، بداية على الأحزاب وعلى العمل
السياسي، ثم على الأفراد. وبين تلك القوانين، على سبيل المثال، قانون
الجنسية والدخول إلى إسرائيل في سنة 2003 الذي يمنع لمّ شمل عائلات
فلسطينية في الداخل حين يكون أحد الزوجين من مناطق السلطة الفلسطينية؛
تغيير بند 7(أ) في قانون أساسي: الكنيست (تعديل رقم 35) في 15أيار (مايو)
2002، الذي أضاف بند منع تأييد الكفاح المسلح (والمقصود الدعم السياسي)
لدولة معادية أو منظمة إرهابية ضد دولة إسرائيل كذريعة أخرى لمنع الترشح
للكنيست؛ قانون ضمان إسقاط حق العودة الذي سُن في 1 كانون الثاني (يناير)
2002؛ تعديل قانون الانتخابات للكنيست ولرئاسة الحكومة (تعديل رقم 46) في
15أيار(مايو) 2002، والذي يطالب أي مرشح بأن يصرح أنه «يتعهد بالإخلاص
لدولة إسرائيل والامتناع عن العمل بما يخالف المبادئ المذكورة في المادة
7(أ) لقانون أساسي: الكنيست»؛ تعديل قانون حصانة أعضاء الكنيست من جهة
حقوقهم وواجباتهم (تعديل رقم 29) في سنة 2002، والذي ينص على عدم سريان
الحصانة البرلمانية لعضو كنيست في حال قام بتصريح أو عمل فيه تحريض على
العنصرية، أو نفي لوجود دولة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي، أو نفي للطابع
الديمقراطي للدولة.

أمّا
القوانين البارزة التي سُنت في الفترة الأخيرة لقمع الهوية الفلسطينية
والذاكرة الجمعية للفلسطينيين في الداخل من جهة، ولشرعنة سياسات الفصل
العنصري، ومحاربة مؤسسات أهلية تندرج تحت تعريف «اليسار الصهيوني»، من جهة
أخرى، فكانت: تعديل اقتراح قانون أساسي: الميزانية (تخفيض ميزانية أو دعم
بسبب نشاطات ضد مبادئ الدولة)،2010. (2) فقد أقر الكنيست في 22 آذار(مارس)
2011 التعديل رقم «40» لقانون أساسي: الميزانية، الذي يعرف باسم «قانون
النكبة»، والذي يمنح وزير المالية، بعد تسلّمه وجهة نظر المستشار القضائي
لوزارة المالية، وبعد تلقّي توصيات طاقم مهني بهذا الشأن يعيّنه وزير
المالية ويتألف من مسؤولين من وزارة القضاة ووزارة المالية والوزارة التي
تعني ببند الميزانية التي تحصل عليها هيئة معينة، صلاحية سحب ميزانيات من
هيئات تموّلها الحكومة، مثل جمعيات ومنظمات وسلطات محلية، في حال إحيائها
ذكرى النكبة الفلسطينية في يوم استقلال دولة إسرائيل. كذلك يخول القانون
وزير المالية سحب تمويل مؤسسات وهيئات تمس «احترام علم الدولة أو رموزها»،
وسحب التمويل الحكومي من هيئات ومنظمات وسلطات محلية ترفض ما يسمى «القيم
الأساس لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية». كما يمنع القانون هيئات أو
مؤسسات حكومية أو تلك التي تحصل على تمويل حكومي كالسلطات المحلية، من
تنظيم أو تمويل فاعليات تتناقض مع أسس الدولة أو قيمها أو تنفي تعريفها
كدولة يهودية وديمقراطية. وينص القانون أيضاً على إلغاء تمويل، وعلى اتخاذ
إجراءات قضائية ضد كل من يصدر بياناً يحرّض على العنصرية والعنف والإرهاب،
أو يدعو إلى الكفاح المسلح، أو يؤيد عملاً إرهابياً ضد إسرائيل(3).

ولقي
القانون معارضة من الكتل العربية في الكنيست ومن أعضاء كنيست آخرين، فقد
اعتبروه «شرطة على الأفكار» وغير ديمقراطي وأن خطورته تتجاوز المس بحرية
التعبير، إذ إنه يطال تقييد العمل السياسي برمته. (4) وقالت النائبة حنين
زعبي: «نحن بصدد قانون يشرّع التدخل في مشاعر وأفكار ومعتقدات المواطنين».
وأضافت أن القانون يظهر أن الدولة ترى أن تاريخها هو بحد ذاته خطر
استراتيجي ضدها. فالقانون فضلاً عن أنه يعاقب المشاعر، فإنه يظهر مدى خوف
الكنيست من الحقيقة، ومن ذاكرة الفلسطينيين، ذلك بأن الخوف الحقيقي من
النكبة يكمن في أنها حقيقة تاريخية، وليست مجرد رواية الفلسطينيين.(5)

قانون
النكبة هو أوسع وأكثر من مجرد محاولة لقمع الوعي الوطني والسرد التاريخي
للبقية المتبقية من الشعب الفلسطيني في وطنه. فعلاوة على تقييده حرية
التعبير عن الرأي وعن الموقف السياسي، يحاول هذا القانون أن يردع اتخاذ
مواقف سياسية غير مقبولة من المؤسسة الإسرائيلية في عدة مجالات منها:
النضال الفلسطيني ضد الاحتلال؛ دعم أي مقاومة عربية ضد إسرائيل؛ تعريف
الدولة كدولة يهودية وديمقراطية. لكن هذا القانون ليس وحيداً أو نشازاً في
مشهد التشريعات البرلمانية العنصرية، وإنما يجب وضعه ضمن سلة واسعة من
التشريعات التي لا تعمل جميعها على تضييق الخناق وتقليص هامش العمل السياسي
للفلسطينيين في إسرائيل فحسب، بل تعيد ترسيم قواعد المشاركة في اللعبة
السياسية في دولة إسرائيل أيضاً.

وثمة
قانون آخر سُن في الأشهر الأخيرة في الكنيست، وهو يشرعن سياسات الفصل
العنصري، ويعرف بقانون لجان القبول للسكن في بلدات يهودية. ففي 22/3/ 2011،
أقر الكنيست تعديل قانون أوامر الجمعيات التعاونية (رقم 2011، (6) الذي
يشترط على أي شخص يسعى للانتقال إلى بلدة صغيرة في منطقتي النقب والجليل،
والتي تحوي أقل من 400 أسرة، الحصول على موافقة من لجان قبول تتألف من سكان
المدينة، وعضو في الوكالة اليهودية أو المنظمة الصهيونية العالمية. ويخوّل
القانون هذه اللجان أن ترفض المرشحين الذين تراهم، بين أمور أخرى، «غير
ملائمين لطريقة الحياة في المجتمع» أو أنهم «ربما يضرّون بنسيج المجتمع».

صيرورة
تعديل القانون والمصادقة عليه في مختلف المراحل تبين أن الهدف الأساسي هو
منع انتقال مواطنين عرب إلى السكن في بلدات يهودية صغيرة، إذ ينص التعديل
على أن المتقدم للسكن في تلك البلدات القبول بالطابع اليهودي والصهيوني
للبلدة. (7) وكي لا يبقى هذا التعديل مبادرة محلية تكون عرضة للمساءلة أو
النقد في المحاكم، فإنه تمت المبادرة إلى تعديل قانون أوامر الجمعيات
التعاونية. فعلى سبيل المثال، قال النائب يسرائيل حسون (كديما) خلال
المراحل من تعديل القانون إن «اقتراح القانون يعكس التزام الدولة بالعمل من
أجل تعزيز القدرة على تحقيق الحلم الصهيوني في دولة إسرائيل قولاً
وفعلاً». (

وفي
المقابل يرى معارضو القانون (الأحزاب العربية) أنه يخوّل لجان القبول في
البلدات رفض سكن فئات سكانية ضعيفة في هذه البلدات، مثل المواطنين العرب،
والمهاجرين الجدد، والعائلة الأحادية الوالدين. (9) أمّا مؤسسة عدالة
(المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل) فقالت إن هذا القانون
يشرّع، ولأول مرة الفصل العنصري في السكن، يبرر بشكل غير مباشر العنصرية
على خلفية ثقافية أو اجتماعية. (10)

ولم
تقتصر عملية إضافة شروط جديدة وتشديد قائمة للعمل السياسي على مستوى
الأفراد أو المجتمع العربي فقط، كما أشرنا في بداية التقرير، بل توخت أيضاً
عمل جمعيات ومؤسسات تعتبر، إسرائيلياً، صاحبة موقف يساري متطرف أو معاكس
للإجماع الصهيوني، كما يتضح من قانون واجب الكشف عمَّن يتلقّى دعماً من
كيان سياسي أجنبي 2010،(11) ومحاولة إقامة لجنة برلمانية للتحقيق في مصادر
تمويل جمعيات يسارية. فتعديل قانون الجمعيات يرمي إلى عراقيل إضافية أمام
عمل الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني بواسطة فرض تقديم تقارير مفصلة عن
التبرعات المالية التي تحصل عليها من أي كيان سياسي أجنبي. (12)

وجاء
في القانون: مع حصول أي مؤسسة على المساعدة المالية من جهة كيان أجنبي،
فإن على متلقّي المساعدة، خلال أسبوع من انتهاء الفصل الذي تلقت فيه الدعم،
إرسال تقرير مالي موقّع إلى مسجّل الجمعيات يتضمن: هوية مقدّم المساعدة؛
مبلغ المساعدة؛ أهداف المساعدة أو غاياتها؛ الالتزامات التي قدمها من تلقى
المساعدة إلى الكيان السياسي الأجنبي، أكان ذلك شفوياً أم كتابة، على نحو
مباشر أم غير مباشر. وإذا كان ثمة التزامات كتلك، فإن على الجمعية الحاصلة
على التمويل الفحص والتدقيق قدر المستطاع لمعرفة ما إذا كان مصدر التمويل
الذي حصلت عليه جاء من كيان سياسي أجنبي. وهذا القانون لا يسري على
الهستدروت، أو المنظمة الصهيونية العالمية، أو الوكالة اليهودية لأرض
إسرائيل، كيرن هَيِسُود ـ الجباية الموحدة لإسرائيل وصندوق أراضي إسرائيل،
وأي مؤسسات تابعة لها.

وانتقد
عدد من أعضاء الكنيست هذا القانون بشدة، كونه يقلص هامش الديمقراطية من
جهة، ويصعّب عملية تجنيد دعم مالي من صناديق تموّل من طرف كيانات سياسية أجنبية
من جهة أخرى. لكنه يجيز الدعم من طرف أفراد، وهو أسلوب دعم رائج جداً لدعم
مؤسسات وجمعيات محسوبة على التيار اليميني في إسرائيل، أي أنه لا يفرض
معوقات على دعم أفراد أو جماعات غير مدعومة من كيانات سياسية أجنبية. ويرى
بعض المحللين في هذه التوجهات محاولة للقضاء على ما تبقى من أحزاب يسار أو
جمعيات أو مؤسسات مدنية معدودة على اليسار، فالصحافي جدعون ليفي مثلاً، من
صحيفة «هآرتس»، انتقد القانون بشدة، وكتب قائلاً: «لماذا كل هذه القوانين
التي تقيد اليسار والحقوق والديمقراطية بذريعة حجج متعددة؟ هناك أسلوب
أسهل: إعلان أن اليسار خارج عن القانون في دولة إسرائيل. كل من لديه
معتقدات يسارية، أو يتظاهر تحت شعارات يسارية، أو يجنّد أموالاً لليسار،
يُرمى في السجن وتنتهي المسألة. في إسرائيل 2011 من غير الشرعي النضال من
أجل حقوق الإنسان، أو ضد الاحتلال، والمطالبة بالتحقيق في جرائم الحرب. هذه
المواقف مشتركة للنخب ولمؤسسات الحكم والقانون كافة كلهم يشاركون في
الاحتفال الخطر بنزع الشرعية عن اليسار»(13)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إيم ـ تِرْتسو (إذا شئتم)... تجديد الصهيونية

تأتي
هذه القوانين كي تشكل أحد أذرع ملاحقة ما يُعتبر، إسرائيلياً، جمعيات
خارجة عن الإجماع الصهيوني اليميني الجديد، إلى جانب مؤسسات غير حكومية،
منها مؤسسة «إيم ـ تِرْتسو /إذا شئتم» التي برزت بشكل خاص في العامين
الأخيرين ـ فهذه المؤسسة تقوم بدور مكمل لعمل المؤسسات الحكومية، بل
أحياناً تطلق شعارات وتقوم بحملات إعلانية لا تجرؤ عليها الحكومة أو
الكنيست، وتهتم تحديداً بملاحقة محاضرين في جامعات إسرائيلية متهمين بمواقف
يسارية ومعاداة الصهيوني، أو مؤسسات مجتمع مدني تنتقد سياسيات إسرائيل،
وخصوصاً تلك المؤسسات التي ساهمت في تحضير مواد ومعلومات غولدستون عن حرب
إسرائيل على غزة، أبرزها مؤسسة «صندوق إسرائيل الجديد» بسبب تقديمها دعماً
مالياً لمؤسسات «يسارية» معادية للصهيونية وفقاً لرؤية مؤسسة «إيم ـ
تِرْتسو» بحملات ضد جمعيات أهلية عربية تعمل في مجال الدفاع عن حقوق
الفلسطينيين، فهناك تكامل في الأدوار بين مؤسسات حكومية ومؤسسات غير حكومية
بغية فرض تصرف سياسي مقبول، وقمع أي نقد تجاه الحكومات أو دولة إسرائيل.

وضعت
مؤسسة «إيم ـ تِرْتسو» على رأس سلم أولوياتها مهمة إعادة تثقيف المجتمع
الإسرائيلي بقيم الصهيونية الأصيلة، والتخلص من خطاب اليسار البليد أو خطاب
اليمين المتطرف، كما تقول في موقعها الرسمي. (14) وتهدف المؤسسة إلى إحداث
ثورة صهيونية جديدة لا مكان فيها لمَن يعادي الصهيونية ويعمل ضد مصالح
الشعب اليهودي وإسرائيل، ولا مكان لمؤسسات عربية لا تقبل استبطان الهزيمة
الفلسطينية، ولا تتنازل عن الانتماء القومي، وتعارض ما تعرضه إسرائيل من
حقوق فردية. كما اختارت المؤسسة العمل مع طلاب الجامعات الإسرائيلية كخيار
استراتيجي لتجديد الصهيونية وصقل وعي جديد لدى المجتمع الإسرائيلي. وعملياً
مؤسسة «إيم ـ تِرْتسو» إلى استعمال سياسات الذاكرة والنسيان التي عملت بها
المؤسسة الصهيونية أعواماً عدّة، لكنها تشدد على محاربة فئات ما بعد
الصهيونية والفئات النقدية، عن طريق كي وعي الفلسطينيين السياسي وإعادة
تأريخ الصراع وفقاً للرؤية الصهيونية، وخصوصاً لدى الفئات الشابة وطلاب
الجامعات.

في
ذكرى النكبة الفلسطينية الثالثة والستين أصدرت هذه المؤسسة في أواسط أيار
(مايو) كتيباً بعنوان «أكاذيب النكبة (أو خدعة النكبة)» تهاجم فيه بشدة
إحياء الفلسطينيين ذكر النكبة، ولا سيما داخل إسرائيل، وتعرض رواية تاريخية
مغايرة لحرب 1948 تتهم فيها الفلسطينيين بتشويه التاريخ وتحميل إسرائيل
عواقب خطايا غيرهم، أي العرب أنفسهم. فالنكبة وفقاً لرواية كتيّب «إيم ـ
تِرْتسو»، ليست إلاّ رواية غير واقعية بحجمها ونتائجها، وأن ما حل من تهجير
وهروب للفلسطينيين كان محصلة سياسيات الدول العربية والقيادات الفلسطينية،
ومن غير المقبول مطالبة إسرائيل بتحمل نتائجها.

وقد
سبق أن هاجمت المؤسسة محاضرين في جامعة بن ـ غوريون في النقب بشكل شخصي،
وقامت بحملات ضدهم بسبب مواقفهم السياسية أو مقالات نشروها تدعم مقاطعة
إسرائيل أو تعبّر عن رفضهم السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في
الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، كما قامت بحملة كبيرة ضد البروفسورة نعوم
يحازان مديرة «صندوق إسرائيل الجديد» بادعاء دعمها مؤسسات يسارية وجمعيات
عربية تعمل ضد دولة إسرائيل. وكذلك نشرت تلك المؤسسة تفصيلات الدعم المالي
الذي تتلقاه جمعيات أهلية عربية من صناديق عربية، مثل مؤسسة التعاون، أو من
صناديق أوروبية، وقالت إن هذه الأموال تأتي لنزع الشرعية عن إسرائيل
وتحويلها إلى دولة جميع مواطنيها، أو لشراء أراض في الجليل والنقب. وعلى
الرغم من النشاطات المتزايدة لهذه المؤسسة، والتي تحتاج إلى مبالغ مالية
وموارد هائلة، فإن مصادر تمويلها تبقى غير معلنة ولا يسري عليها التعديل في
قانون الجمعيات، لأن معظم تلك المصادر يأتي من أفراد من جميع أنحاء
العالم، لا عن طريق صناديق سيادية، أو تمويل من طرف دول.

لدى
إحياء الذكرى الـ63 للنكبة الفلسطينية نجد أن تعامل دولة إسرائيل مع
الفلسطينيين في الداخل يأخذ منحى جديداً، وذلك في ظل سيطرة الفكر اليميني
الصهيوني المتجدد وأدواته. وقد تكون هذه المرحلة من أصعب ما مر به
الفلسطينيون في الداخل منذ انتهاء الحكم العسكري في أواسط ستينيات القرن
المنصرم. لأن سياسات التمييز والعنصرية باتت تسن بشكل جلي وواضح، وعلى
مستوى الأفراد، ومن دون أي رادع. ولا يقل خطورة عن ذلك تجريم الموقف
السياسي الوطني ومحاولة قمع الهوية والذاكرة الفلسطينية بواسطة القوانين،
بعد أن فشلت جميع سياسات محو الذاكرة بواسطة مناهج التعليم والاحتواء
وسياسة التعلق بالمؤسسات الإسرائيلية. وفي موازاة ذلك نرى أن الدولة توفر
غطاء وشرعية لمؤسسات غير حكومية كي تكمل ما تبدأ به الدولة، أو ما لا تجرؤ
الدولة على القيام به داخل المجتمع اليهودي من قمع الأفكار والمواقف
والتصرفات السياسية.

وبناء
على ردات الأفعال الفلسطينية في الداخل، والمشاركة الكبيرة في إحياء
النكبة، فضلاً عن جرعات الثقة والتشجيع من الثورات العربية، فإننا لا نخاطر
إذا قلنا إنه في هذه المرة أيضاً، ستفشل سياسات الحكومة والكنيست الهادفة
إلى قمع الحس والانتماء القومي، كما فشلت جميع المحاولات منذ نكبة 1948.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

(1)
منذ سنة 1989 ينظم الفلسطينيون في يوم استقلال إسرائيل باسم «مسيرة
العودة: يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا»، إلى إحدى القرى الفلسطينية المهجرة
في الداخل. وقبل سنة 1989 لم يكن هناك فاعليات رسمية فلسطينية في يوم
استقلال إسرائيل.

(2) لمراجعة النص الكامل/ أنظر: «سجل اقتراحات القوانين في الكنيست»، في موقع الكنيست الإلكتروني:

Knesset.gov.il/laws/Data/Billknesset/ 315.pdf

وأنظر أيضاً: يهونتان ليس، «الكنيست يقر قانون النكبة»، «هآرتس»، 23/3/ 2011؛ روني سوفير «قانون النكبة

أقر: شرطة معتقدات في إسرائيل»، «معاريف»، 23/3/ 2011، في الموقع الإلكتروني:nrg.co.il

(3) «سجل اقتراحات القوانين في الكنيست»، مصدر سبق ذكرى.

(4) «مصدر أقوال أعضاء الكنيست» في: «أقول الكنيست» (بروتوكول الكنيست) جلسة في 23/3/ 2011، في موقع الكنيست الإلكتروني: Knesset.gov.il/plenum/data/01461611.doc

(5) من أقوال عضو الكنيست حنين زعبي (التجمع الوطني الديمقراطي)، «الكنيست تقر قانون النكبة»، في موقع «عرب 48»، 23/3/ 2011: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

(6) صودق على الاقتراح في الكنيست في 22/3/ 2011. أنظر الموقع الإلكتروني:

Knesset.gov.il/plenum/data/01583911.doc

(7)
للتوسيع ومراجعة مراحل التشريع، أنظر «إسرائيل والأقلية الفلسطينية»،
تقرير 11، مدى الكرمل (أيلول/ سبتمبر ـ تشرين الأول/ أكتوبر 2010)، في
الموقع الإلكتروني:/[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] research- org/ user files

( «بروتوكول لجنة القانون والدستور» في 27/10/ 2010، في موقع الكنيست الإلكتروني:

Knesset.gov.il/News.asp? News ID= 476

(9) روني سوفير،«إقرار قانون لجان القبول: الطيبي شبهه بلجنة فيترا (النازية)»، في موقع «معاريف» الإلكترونية في 23/3/ 2011: nrg.co.il

(10)
مركز «عدالة» يقدم التماساً إلى المحكمة العليا بإلغاء «قانون لجان
القبول» الذي تم تقديمه في 29/3/ 2011. أنظر موقع «عدالة» الإلكتروني:

adalah. Org/press Releases_ full_ arb.adp?ID=2816& category_ id=151

وأنظر أيضاً: إريك بندر، «زوبعة حول قانون النكبة وقانون لجان القبول»، 23/3/ 2011، في موقع «معاريف» الإلكتروني: nrg.co.il

(11)
قدم الاقتراح النائب زئيف ألكين وآخرون في 8/2/ 2010، وصودق على الاقتراح
في الكنيست في 22/2/ 2011، ونشر الاقتراح والشرح المرافق له في «سجل
اقتراحات القوانين في الكنيست» 347، في 11/10/ 2010، ص 2.

(12) يهونتان ليس، «الكنيست يقر نهائياً قانون يجبر كشف هوية دول تدعم مالياً الجمعيات في إسرائيل»، «هآرتس»، 21/2/ 2011.

(13) جدعون ليفي، «يجب إخراج اليسار خارج القانون»، «هآرتس»، 6/1/ 2011.

(14) [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

» جدارية فنية بغزة ضمن فعاليات إحياء ذكرى النكبة
» عشية إحياء ذكرى النكبة.. إسرائيل تطلي جدران القدس القديمة بألوان علمها
» تعود الشعب الفلسطيني إحياء ذكرى النكبة التي لحقت بالشعب الفلسطيني عام 1948
» النكبة - الجزء الرابع - النكبة المستمرة
» حرب اهلية يجب منعها عبد الباري عطوان