هفوات سعيد وأطروحة الاستشراق
يستطيب فاريسكو الوقوف عند بعض الهفوات والزلات في خطاب سعيد، فيشير مثلا إلى خطأ سعيد القاتل في ترجمة عبارة "لله المشرق" الواردة في شعر غوته إلى عبارة "الله هو الشرق"، لافتا نظر القارئ إلى التسرع الذي فَوَّت على سعيد إدراك أن هذه العبارة اقتباس من القرآن، لا علاقة لها بنية مبيتة في نفس غوته لتصوير الشرق على طريقة ما.
كما يؤاخذ سعيد على قلة تمحيصه في تعامله مع بعض المقولات، كالمقولة المشهورة المنسوبة إلى ماركس التي مفادها أن "المشرقيين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، وإنما يحتاجون إلى من يمثلهم وينوب عنهم"، مبرزا كيف انتزعت هذه المقولة من سياقها انتزاعا، وكيف لا يجوز لباحث بحجم إدوارد سعيد أن يفوته التنبه إلى أن السياق الذي وردت فيه لا يحتمل المعنى الشائع الذي حُمِّلَته.
صحيح أن هذه الأمثلة وغيرها تشهد على نوع من التهافت وضرب من التسرع في كتابة سعيد، لكن المبالغة في طلبها تشهد على تهافت من نوع آخر.
لقد أغفل صاحب قراءة في الاستشراق أن الناقد، متى يلتمس للكاتب عيبا، يجد عيوبا. وليعذرنا فاريسكو في أن نمازحه مشيرين إلى أن اسم الكاتب الفرنسي صاحب كتاب La Tentation de L'Orient ليس هو André Malroux بل هو André Malraux،وشتان بين "المالروين" فهل قرأ فارسكو كتاب مالرو، وإذا قرأه فلماذا أخطأ خطأ شنيعا في كتابة اسمه؟
إن العبرة في ما يصبو إليه فاريسكو من نقض أطروحة سعيد ليست في كثرة ما وقع فيه إدوارد سعيد من أخطاء في تأويل النصوص أو ترجمتها، بل العبرة تكمن في مدى مناسبة هذه الأطروحة لواقع الحال.
إذا سلمنا لفاريسكو بتحريف سعيد لكلام ورد في نص لبرنارد لويس عن مكانه مثلا، فهذا لا يفيد بأننا نسلم معه بأن برنارد لويس ليس -كما يدعي إدوارد سعيد- "إنسانا يضع نفسه رهن الإشارة متى احتيج إلى التهجم معرفيا على العرب والمسلمين".
فلئن أخطأ سعيد في تأويل نص لبرنارد لويس، أو شرح عبارة في أحد كتبه، أو نقل تصريح من تصريحاته، فإن هذا ليس دليلا على خلو مشروع برنارد لويس الفكري من علاقة وطيدة تجمعه بمؤسسات الإمبريالية العسكرية والسياسية.
يمكننا القول إن فاريسكو نهج إستراتيجية بلاغية في قراءته في استشراق إدوارد سعيد تعتمد تضخيم الصغائر من الأمور بغرض حجب العظائم منها. لذلك تراه يقف عند أمور لغوية دقيقة، مدققا في مناسبتها لدلالات النصوص الأصلية، في وقت يقتضي السياق فيه غير ذلك.
فبتدقيقه مثلا في مناسبة تحليل سعيد لكلام إرنست رينان يعطينا فاريسكو الانطباع بأنه يريد أن يخفي شيئا أظهر من أن يخفى.
فهل مواقف رينان تقبل تأويلات أخرى غير كونها مواقف ترشح تحاملا على "الآخر" المشرقي، المسلم خصوصا، وتضمر الرغبة في تقديم السند المعرفي للمؤسسة الإمبريالية، بغض النظر عن الأمثلة التي أحسن أو أساء سعيد في الاستشهاد بها؟
يعيب فاريسكو على إدوارد سعيد نزعته الانتقائية وتركيزه على كتاب وأدباء بدل آخرين. وقد وفق في الإتيان بعينة من النصوص التي أغفلها إدوارد سعيد، مدعيا أن السبب وراء هذا الإغفال هو عدم مناسبتها للغرض الذي يرمي إليه، ألا وهو تعرية العلاقة بين الاهتمام بالشرق والرغبة في الهيمنة عليه.
وبهذا ظن فاريسكو أنه قوض أطروحة سعيد ونسف القاعدة التي تقوم عليها، لكن الحاصل هو أن وجود المنتصرين لقضايا الشرق والإسلام والعرب داخل الغرب، لا ينفي إطلاقا وجود العلاقة التي يسعى سعيد إلى تجليتها بين الاهتمام بالشرق والمؤسسات الاستعمارية.
إن هذه المؤسسات قامت وتقوم بتوظيف المعرفة حول الشرق لخدمة أغراض تسلطية واضحة، وهذا أمر يعسر إنكاره.
كما يحاول فاريسكو أن ينزع الشرعية عن أطروحة سعيد بنسبتها إلى من سبقه إلى الإشارة إلى وجود علاقة بين الاستشراق والمؤسسات الاستعمارية، وكأنه يريد أن يوحي للقارئ بأن إدوارد سعيد لم يأت بشيء جديد وإنما كرر ما سبق أن أشار إليه الكثيرون قبله.
وهنا كذلك يخفق فاريسكو في النيل من صلابة أطروحة سعيد، حتى ولو افترضنا أن سعيدا سرق الأطروحة من غيره، فهذا لا ينفع فاريسكو في تقويضها ونسف الأصل الذي تقوم عليه.
فلا أحد يجادل في وجود من سبق سعيدا إلى التحدث عن هذه العلاقة، سواء من داخل الغرب أو من خارجه.
الواقع أن سعيدا استطاع أن يبني قنوات تصريف بلاغية اتسعت لاستيعاب ما قيل من قبل حول علاقة المؤسسة الاستعمارية بالشرق، فصرخ صرخة مدوية في وجه الغرب الاستعماري، من داخل الغرب المتعدد. ولا يضير أطروحته كونه يشترك مع غيره فيها.
مشروع سعيد وآفاق النقد العربي الإسلامي
يمكننا القول إن فاريسكو أخفق في بلوغ الهدف من وراء كتابه، ذلك الهدف المتمثل في تقويض أطروحة سعيد المتينة. لكن بالرغم من هذا الإخفاق، فإن الكتاب نجح في طرح جملة من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بمشروع سعيد النقدي والفكري.
ونعتقد أنه لو صرف كامل جهده إلى الإجابة عن هذه الأسئلة -في إطار مسعى آخر غير السعي إلى نقض مشروع الاستشراق- لكان الحظ قد حالفه في فتح فضاء جديد لتبادل التفكير في قضايا لا تزال عالقة بخصوص إدوارد سعيد المثقف والمشروع، وبخصوص احتكاك المثقف العربي المسلم بالثقافة الغربية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
فاريسكو يلفت نظرنا إلى أن إدوارد سعيد يقف عند تفكيك صورة الشرق كما صنعها الغرب، دون أن يتقدم خطوة إلى الأمام نحو رسم صورة الشرق كما هو، رادا هذا العجز إلى كون سعيد نفسه لا يعرف الشرق، أو إلى انغماسه في بحر الثقافة الغربية ونهله منها.
فسعيد حين يحدثنا عن الموسيقى الغربية الكلاسيكية، محاولا إثبات رسوخ قدمه فيها، واستحسانه لأعمال موسيقية غربية في معرض مقارنتها مع موسيقى عربية، إنما يؤكد انتماءه الذوقي والحسي لمنظومة غربية خالصة، وبعبارة أدق يبرز فاريسكو بعض مناحي سعيد وخصائص مشروعه الفكري التي تجلي أنه أقرب إلى الانتماء إلى الغرب منه إلى الشرق. وهذا أمر قابل للنقاش.
فسيرة إدوارد سعيد الذاتية المعنونة "خارج المكان" تفصح عن تمزق رهيب، تمزق الذات العربية والمسلمة في مجتمع ما بعد الاستعمار بين "الأنا" و"الآخر"، كما تشهد بمأساة الإنسان الفلسطيني بين المنافي.
حقيقة أن سعيدا كان يحتل مكانا إستراتيجيا على الحدود بين ثقافتين أو حضارتين، وأن هذا المكان مكنه من الإطلال على الفضاءين، لكن القدرة على الإطلال لا تعني الحق في الانتماء، فسعيد ظل إلى آخر حياته موزع الميول، شرقي الهوى تارة، وغربيه تارة أخرى.
لقد افتقر إدوارد سعيد إلى ما به يؤلف بين الانتماءين، فظل خارج المكان. ولعل فقره لم يأت جراء تقصير منه -وهو المغرم بالعمل وبذل الجهد- وإنما بسبب عيب في المنظومة الثقافية العالمية التي لم تبوّئه -كما لم تبوّئ المثقف العربي المسلم عامة- مقعدًا مريحًا.
هل حاول إدوارد سعيد أن يحجب المثقف العربي المسلم عن الأنظار، ليستحوذ على الضوء كله؟ يحاول فاريسكو أن يقنعنا بأن في كتاب إدوارد سعيد الاستشراق تهميشًا للأصوات الشرقية الناقدة للغرب ومحاولة للتحدث باسمها.
قد يكون في هذا جزء من الصحة، لكن العيب ليس في مشروع سعيد، بل يمكن رده إلى عدم قدرة المثقف في الشرق العربي على النفاذ إلى عمق الثقافة الغربية وما تشهده من نقاشات، إما لقلة زاد معرفي وعدم تمكن من اللغات الغربية الحية أحيانا، وإما لافتقار إلى حيل النفاذ إلى هذه الثقافة وأسباب التأثير فيها.
نجمل الحديث عن كتاب فاريسكو ونقول إن أطروحة إدوارد سعيد لا تزال قائمة الأركان، صلبة الجدران، صامدة في وجه التحامل الممنهج الهادف إلى تقويضها، إذ لا سبيل إلى إنكار وجود العلاقة بين المؤسسة الاستعمارية والإمبريالية، وبين المعرفة.
لكن القول بوجود هذه العلاقة يجب ألا يعمينا عن حقيقة أخرى مفادها أن الغرب نفسه لا يخلو من عقلاء وأصوات تنبه إلى مخاطر هذه العلاقة، لا على الشرق و"الآخر" فحسب، بل على الغرب و"الذات" كذلك.
بالمقابل، لا يجوز للمشروع النقدي العربي والإسلامي أن يتوقف عند مشروع إدوارد سعيد. فالساحة الفكرية في العالم العربي والإسلامي مطالبة اليوم برفع جاهزية المثقف العربي والإسلامي، أملا في بلوغ مشاريع نقدية جديدة تستوعب طبيعة الظرف التاريخي الراهن وتملك مقومات النفاذ إلى ساحة السجال الفكري عالميا.
وليس في طلب التفكير في "ما بعد سعيد" تنكر ولا دعوة لنسيان الراحل إدوارد سعيد
الجزيرة نت