في أزقة جبل القصور، تقودنا الأقدام، وتسبقنا الرغبة في التعرف، من جديد، على فنان مؤسس لنمط فني فريد في فن النحت الفطري المميز هو الفنان عبد الحي مسلم .
نمضي في أزقة تتلوى صعودا وهبوطا، حتى نقف أمام سور حجري لا يبدو خلفه أي بيت. نقرع الجرس، فنسمع صوتا، بلهجة بلدية ريفية، يسأل عن الطارق.
يفتح الباب ونعبر أدراجا ضيقة متلوية أيضا، إلى حيث يقبع الفنان، لنقف أمام شخص ينم مظهره عن أصوله القروية، بوجه رسمت ملامحه آثار الزمن والنكبات والتشرد، وجسد نحيل أذبلته سنوات الكدح والتجريب، سعيا وراء حلم فني ذي صبغة نضالية بارزة، وصوت أجش ذبحته سجائر التبغ العربي (الهيشي) الذي يلفه بأصابع نحيلة تنقلت بين السلاح وأدوات الفن ولف السجائر.
يستقبلنا الفنان الفطري البسيط ابن قرية الدوايمة في مرسمه المتواضع 'المعبد' حيث لم يعد له وهو في الرابعة والسبعين من عمره، سوى هذا المكان يقضي فيه وقته، من الفجر حتى وقت متأخر من المساء، مع كائناته ولوحاته التي تحيط به خالقة له متعة لا مثيل لها... هي حاضره وماضيه وحسب قوله هي كل ما يملك.
إن أعماله هي بمثابة مستودع للفلكلور والأمثال والحكم الشعبية وقصصها المصورة على وجه مسلم معاناة التشرد والنزوح، خطوط النكبة والحرمان من الاستقرار، لوحة تشكيلية من فعل الزمن بوجه وعيون مسلم.
هو فنان بالفطرة، اكتشف موهبته وتقنيته بنفسه عام 1971، وكان عمره يقارب الأربعين، أدواته الخشب والنشارة والغراء الأبيض يطوعها لاشكال ثلاثية الأبعاد لمعالم القرى والحياة اليومية للناس والملابس التقليدية وفي دفء مرسمه وبين أحضان لوحاته التقيت الفنان الساكن من الخارج كمياه بحيرة تبدو هادئة فقررت الغوص بأعماقها لمعرفة دواخلها .
حدثني عن تجربتك الفنية؟
تجربتي استثنائية عن كل ما سمعتيه، لأنها لا تقوم على الدراسة الاكاديمية بل على العفوية والصدق الفطري والموهبة التي تفجرت بداخلي وانا في الاربعين من العمر، اكتشفت ادواتي الفنية بنفسي وابتكرت الاساليب الابداعية وصنعت شخوصي الذين سيحملون رسالتي الى العالم. انا امتلك خيالا واسعا جدا وعملي الفني الذي اعشقه متعتي في الحياة واملك القدرة على التعبيرعن كل ما يدور بذهني من هواجس وافكار وخيالات واجسدها بداخل لوحتي التي هي جزء مني واعيش عدة مراحل من الفك والتركيب والاندماج للوصول الى الحالة النهائية لولادة العمل.
كيف تختار موضوعات لوحاتك؟
لدي معين لا ينضب من الذكريات خاصة حياتي في القرية الفلسطينية التي هي اقرب الى الاسطورة وتظهر امامي صور تلقائية فنية بتشكيلات مختلفة، وكما قلت لك الخيال لدى شاسع واكثر ما يثيره الحكايا الشعبية والامثال العربية والقصائد الشعرية، وعندما تحتلني هذه الحكايات والقصص ويتلبسني طيف الحنين والاشتياق لذلك الجميل الذي مضي والذي حضر بداخلي او احضرته ليصبح واقفا ماثلا امامي في مجسمات تتفجر منها ينابيع ملونة واهازيج شعبية اسمعها من خلال سيمفونيتي الخاصة بي وهي ايقاعات الربابة والناي واليرغول خلال سهراتنا القروية. انا لم انفصل عن القرية ومجتمعها وعلاقتي بموروث القرية بطقوسه المتنوعة من اجتماعات ولقاءات ونضالات واعراس والعتابا والميجنا والجفرا كلها سكنتني وما زلت احفظها كما هي في تلك المرحلة .
الكتابة جزء من كينونة عملك التشكيلي، ما دلالته الفنية لديك؟
الحزن عندي يساوي الفرح واعبر عنه بالكتابة التي تكون احيانا مفاتيح العمل لقراءته والاندماج بالصور التعبيرية له، وللكتابة دور تزيني وتفعيلي لجماليات الصورة. وستجدين في كل عمل لدي تفصيل هام يخدم الفكرة ودورها الوظيفي والانفعالي وهي توثيق لمرحلة ما.
متى كانت أول مشاركة فنية لك؟
عام 1971 في صالة عرض بفندق الشاطئ في ليبيا، وشاركت بـ 47 لوحة.
كم عدد المعارض الفنية التي شاركت فيها؟
اكثر من 36 معرضا عالميا وعربيا وشاركت بعدد كبير من المعارض الجماعية.
علمت انه منذ صغرك وأنت تحلم أن تكون مقاتلا في صفوف الثورة الفلسطينية والآن نرى أمامنا فنانا، ما هي المسافة بين الحلم والواقع؟
لوحتي الفنية هي المسافة، منذ اللحظة الاولى لإعارتي لسلاح الجو الليبي احسست بأن الحلم انكسر بداخلي، وبدون دراية مني بدأت بتشكيل حلمي بيدي وهذا ما ساعدني على تحمل هذا الانكسار واحسست ان هذا الانكسار بدأ يتلاشى لأنني جسدت مقاتلي الذي حلمته وخاض الانتصارات وتعرض للكثير من المعاناة والمؤامرات لكنه بقي محافظا على بوصلته الموجهة لفلسطين .
قلت في إحدى جلساتك انك نشأت في أسرة تهتم بالتطريز الشعبي، هل لهذه النشأة تأثير على تركيزك على التراث الشعبي؟
بدأت بالاهتمام بالتراث الشعبي في الثمانينات، حيث كنت في يوغسلافيا ولدي معرض في احد الفنادق ومن ضمن زوار المعرض امرأة يوغسلافية اعجبتها طريقة عملي وقالت لي ان والدتها فنانة وتريد ان تعرفني على اعمالها الفنية، وذهبت لزيارتها ورأيتها ترتدي الثوب الفلسطيني، سعدت كثيرا وقلت لها هذا تراث فلسطيني اتعرفين ذلك؟ ولكنها قالت بحزم لا هذا الزي الاسرائيلي وانا اشتريته من تاجر 'اسرائيلي' في القدس، حاولت اقناعها ان نساءنا يصنعن هذا الثوب بأيديهن منذ الاف السنين لكنها لم تقتنع ومن هنا بدأت اركز على الثوب الفلسطيني والتراث الشعبي لأن من سرق الارض لن يترك لنا ذاكرة او تاريخ.
عنوان إحدى لوحاتك 'حتى لعب الأطفال لم تنج من هذا القصف'، ما هي قصة هذه اللوحة؟
كانت هذه في عام 1982خلال القصف المتواصل على بيروت، وفي ذاك اليوم كان القصف عنيفاً واستمر منذ الصباح الباكر الى المساء دون انقطاع، وكنت في احد زوايا شارع ما في بيروت وشاهدت لعبة فيها ثقوب من اثار القصف وفيها رائحة الموت والدمار، فتبادر الى ذهني الطفل صاحب هذه اللعبة، وما الذي حل به وماذا كان مصيره. اخذتها وجسدتها في لوحة وبدأت العمل تحت القصف وفي الشارع وصارت الصحافة ووكالات الانباء تصور وتنقل ما اعمل لان لوحاتي كانت تحريضية وتثقيفية ولا يقل دورها عن اي مقال تحريضي في تلك المرحلة وهذا هو دور الفنان وتلك اللوحة عرضت في اغلب دول العالم الغربي . كنت أجلس على الأرصفة أثناء القصف وأبدأ بتشكيل اللوحات التي تتحدث عما يجري في بيروت جراء القصف من صمود أسطوري وملحمي فأنجزت ما يقارب الثلاثة عشر عملاً. وشاركت مع ثلاثة وثلاثين فنانا يابانيا بمعرض في مدينة طوكيو عن مذبحة صبرا وشاتيلا التي حدثت في لبنان بنفس العام 1982.
لماذا تتحدث معظم أعمالك الفنية عن المعاناة الفلسطينية؟
نتيجة للظروف التي عشتها في فلسطين .... لم اعش طفولة حقيقية لأنني منذ الولادة وأنا اختلط مع الكبار في السن . و استمع لاحاديثهم حول المعاناة التي سببها الأتراك ومن ثم مرحلة الانتداب البريطاني، عشت ملاحقة الثوار، أنا شاهدت الانكليز مرتين وهم يقتحمون البلد ويستعملون مكبرات الصوت، ويأمرون الناس بترك بيوتهم ومحلاتهم مفتوحة، ورأيتهم وهم يعبثون بكل شيء. وجاء الاحتلال لفلسطين عام 48وهاجرت مع اهلي من قرية الدوايمة الى مخيم العروب وعايشت الهجرة الثانية من العروب الى الاردن. حياتي لم تكن سهلة، اختلطت القضية مع الحلم، مع معاناة التهجير واليتم، كل ذلك جعلني اهتم بالفن والثقافة الشعبية، وأنا أؤكد بأنني استطعت أن أقاتل بهذه اللوحة أكثر من البندقية، لأن اللوحة الملتزمة لا تقل أهمية عن الرصاصة، ونشر عمل عن معاناة الشعب الفلسطيني خارج العالم العربي مهم جدا ........
عام 1979 سكنت في سورية (مخيم اليرموك) وكانت افضل فترة من فترات الزخم الفني منذ (79 ـ 92 )، أنجزت كثيرا وزرت العالم، شاركت في 36 معرضا فرديا، وفي عدد كبير من المشاركات الجماعية .
ماذا يعني لك المرسم؟
أجمل لحظة في حياتي هي لحظة دخولي الى المرسم، حيث اجد الوجوه المحببة لاصدقائي الراحلين والمقيمين، واشتم رائحة المرأة التي احب، وأرى الوطن المكبل بالاحتلال والمليء بذكرياته المتناقضة من حزن الفقد الى توهج اهازيج اعراس القرية وافراحها . ان لحظة دخولي المرسم مليئة بعوالم من الدهشة والفرح والحزن الشفاف الخالص والحوارات الغنية والثرية، انها حياة قائمة بحد ذاتها.
يقول الفنان محمد نصر الله بأن ألوانك فيها فرح؟
للون ارتباط حميم بحالتي النفسية. وهذا الفرح يأتي من سعادتي بولادة كل عمل من أعمالي وأكون في منتهى الفرح والتحليق عندما تصل رسالتي إلى الناس. الواني مباشرة ولا يوجد فيها أي نوع من التعقيدات، لا أحب ولا أفضل فلسفة مفهوم اللون واللوحة والقصيدة والمسرحية والرواية هي دعم للمقاومة. والفنان الملتزم يكون ملتصقا بأمته وقضيته ويهمني أن أوجه رسالتي إلى كافة الناس في العالم.
ماذا يعني لك اللونان الأزرق والأخضر لأنهما موجودان في معظم أعمالك؟
استخدم اللون بشكل وظيفي من اجل توصيل رسالة ما، مثلا في العرس الفلسطيني تشاهدين الوانا متنوعة وكثيرة لتوظيف فكرة تعدد اشكال التراث للثوب لأكثر من مدينة فلسطينية والهدف هنا الحفاظ على الذاكرة والتاريخ لتراثنا الشعبي الذي يحاولون سرقته.
لأعمالك الفنية استحضار للتراث الكنعاني كيف تستنبط تلك الدلالات الفنية؟
للتراث الكنعاني روح مليئة بالأساطير والخصوبة، وهذه الروح تم توريثها إلى القرى الفلسطينية، وهذا التراث ممتد منذ آلاف السنين.
كيف عبرت عن هذا التراث الكنعاني الممتد منذ آلاف السنين؟
أنا من قرية فلسطينية تحتوي على عشرات المواقع الأثرية التي ترجع إلى العصر الكنعاني ومن هنا حضر التراث في أعمالي من خلال استخدامي لبعض الرموز والإشارات منها المراكب القديمة التي تشق عباب الماء، والنساء اللواتي يطرن أو يتحولن إلى أشجار، وهناك تشكيلات مختلفة للبعل راكب الغيوم، وغيرها.
تتميز لوحاتك باحتفاء خاص بالمرأة فهي موجودة في اغلب أعمالك وأحيانا تظهر جسدها ضخما بالقياس إلى جسد الرجل الذي يبدو ضئيلا. ما دلالاتها الفنية؟
نادرا ما يكون عندي عمل لا يوجد فيه امرأة لأنها شيء كبير جدا هي كل المسميات والمواصفات، المرأة في أعمالي هي الأرض التي أجسد ما يماثل فتنتها واكتنازها وعطاءها وهي رمز للعطاء والخصوبة، وكلنا نكون صغارا أمام الأرض، لذلك يكون الرجل أحيانا ضئيلا ومستسلما في حضن المرأة الأرض.
خلال تجوالي في مرسمك شاهدت المرأة الشجرة والارض والنخلة وايضا شاهدة المرأة العارية. ما دلالة ذلك؟
انا انسان مثلما اعشق الارض اعشق المرأة، وهي الحبيبة والأم والصديقة وكما قلت لك هي كل المسميات، وانا عشت في مجتمع نساء منذ طفولتي الاولى لان الوالد توفي وانا عمري خمس سنوات، وكنت وحيدا بين ستة بنات وصادف ان خالاتي وعمتي لم يكن لديهم ذكور، فعشت اشكالات المرأة ومعاناتها منذ سنوات طفولتي المبكرة لانني كنت استمع لكل ما يدور من احاديث نسائية لذلك تجدين المرأة في كل اعمالي وبإيحاءات متنوعة.
الناظر إلى أعمالك يشاهد مسرحا تتحرك على خشبته جموع كبيرة من البشر، كيف وصلت إلى هذا الإبداع الملحمي؟
عندما تفجرت الانتفاضة تفجر في داخلي بركان من الإبداع والأفكار الجديدة واتخذ عملي انعطافة مختلفة عن ماضيها فبدأت بعمل جداريات ضخمة فيها حشد من الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا يتظاهرون أو يشاركون في تشييع الشهداء، أي أن اللوحة تتحدث وتحاور وقد أظهرت ذلك في محرقة غزة ،وهي من الأعمال التي لم تعرض بعد ويشرفني أن يكون أول تصوير لها من خلال 'القدس العربي' .
حدثنا عن لوحة (محرقة غزة).
لا يستطيع الفنان أن يتخذ موقفا منعزلا ومحايدا عن كل ما يدور حوله من أحداث خاصة كانت أو عامة، إن عمليات اغتيال الإنسان ومحاولات القضاء على كل القيم الإنسانية والأخلاقية ليست عملا سهلا، وهذا ما كان يجري في غزة . لقد ارتكبوا أفظع الجرائم بحق الإنسانية وداسوا على ابسط حقوقها بالحياة والاستقرار والأمن، لقد انتهكوا الحرمات وأسالوا الدماء ويتموا الأطفال وقتلوا النساء ودمروا وحطموا. كل ذلك تفاعل بداخلي بما يشبه المحرقة، فكانت لوحة (محرقة غزة).
الوجوه في أعمالك الفنية تمتلك ملامح محددة ومتشابهة، فما تعليل ذلك؟
منذ صغري، شاهدت وجوه الرجال الذين كانوا يؤمون بيت المختار، ووجوه المناضلين الذين دافعوا عن شرف الارض، وشاهدت أيضا وجوه اناس بسطاء لطالما عاشوا وهم يحلمون بعبق فلسطين وبنبضها الدافىء، جميع هذه الوجوه سكنتني وما زالت مقيمة معي، وتلح على مداومة الحضور في لوحاتي، وتأبى الا ان تحمل رسائلي للعالم، لأنها وجوه تحمل ملامح الشعب الفلسطيني الذي هو قضيتي حتى الابد.
وماذا عن علاقتك بالفنان التشكيلي الراحل مصطفى الحلاج؟
صحيح أن علاقاتي مع كثير من الفنانين العرب جيدة لكن العلاقة الأميز كانت مع الراحل مصطفى الحلاج الذي تعرفت عليه في عام 1979عندما دعيت من ليبيا لحضور تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين،في لبنان استمر التواصل مع الحلاج بشكل قوي. وأسسنا معاً قاعة ناجي العلي للفنون التشكيلية في دمشق بعد الخروج من بيروت عام 1982، وفي اعتقادي أن الحلاج هو الوحيد الذي أطل على داخلي وفهمني من حيث تقنيتي في العمل وما الذي أقصده، لذلك شكّل موت الحلاج خسارةً كبيرة، كما أن الطريقة التي مات بها الحلاج باحتراقه داخل مرسمه وهو يحاول إنقاذ لوحاته تدل على مدى تمسك هذا الإنسان بفنه وعمله الذي أفنى سنوات طويلة من عمره في إنجازها.