عنب المقاومة وحصرم الانتفاضة

عنب المقاومة وحصرم الانتفاضة

مع استمرار حالة الاستعصاء، وتفاقم وضعية الانقسام والخواء، ناهيك عن محدودية الخيارات وضآلة فرص حدوث الاختراق المنشود وانغلاق دروب المفاوضات والسلام، تزداد إلحاحية السؤال الفلسطيني القديم/ الجديد عن ماهية البدائل المتاحة، وتتعدد الإجابات حول أنجع الدروب الشافية للتعاطي مع واقع علاقات قوة شديد الاختلال، ومن ثم إعادة بناء موقف راشد، واجتراح أساليب عمل قادرة على مجابهة التحديات.
وفيما يتوجه العرب نحو قمة وشيكة تبدو نتائجها المتوقعة مخيبة للآمال سلفاً، يحتدم بين الفلسطينيين سجال لا يخلو من التلاوم والمزايدات، حول أيهما أفضل سبيلاً للخروج من عنق الزجاجة: إشعال انتفاضة جديدة تستلهم دروس وعبر سابقتيها المتفاوتتي النتائج، أم خوض غمار مقاومة شعبية متدرجة الاتساع، ذات أساليب قليلة الكلفة، وأفق سياسي معلوم، وحاضنة وطنية توافقية مؤهلة لإدارة الصراع وتصعيده بحسب المقتضيات؟!
تعبر هذه المفاضلة بين خياريّ الانتفاضة والمقاومة الشعبية عن شعور عام بحدة المأزق، يهيمن على النخب ويستبد بقادة الفصائل، أكثر من كونه تعبيراً عن حالة حوارية تسود الأوساط الشعبية المصابة بحالة من إحباط مديد، تضافر على تعميقه كل من الانقسام الذاتي والتخلي العربي، فضلاً عن التجربة المريرة والنتائج الهزيلة، حتى لا نقول السلبية، التي خلفتها حرائق الانتفاضة الثانية بعد أن تحولت من حراك شعبي إلى عمل عسكري كاد أن يبدد كل مكتسبات الانتفاضة الأولى.
وليس أدل على عمق الفجوة بين هذا السجال المنبري النخبوي الفصائلي، وبين قسمات المشهد الجاري تصنيعه داخل القدس وحول المسجد الأقصى، إن لم نقل افتعاله، انصراف المقدسيين أنفسهم عن الانخراط في هذه اللعبة ذات الأهداف الجزئية المضمرة، حيث تدلنا تفاصيل المشهد الصادم على امتناع نحو 33 ألفاً من أبناء البلدة القديمة، ونحو 30 ألفا من حيّ سلوان، أي قلب الخطة التوسعية الاستيطانية الجارية فصولاً، عن المشاركة في فعاليات أيام الجمع المقتصرة أساساً على بعض طلبة مدارس من القرى المحيطة.
وبتجريد هذا المشهد من المبالغات الإعلامية والأشواق الذاتية لرؤية انتفاضة جديدة، تتجلى مدى ضآلة الاستجابة الشعبية لنداءات قيادات الفصائل وخطباء المساجد الهادرة من عواصم ومطارح بعيدة، الداعية إلى هبة فلسطينية تفجر الوضع وتقطع الطريق، ليس على خطط الاستيطان النهمة، وإنما على خيار استئناف المفاوضات التي تبدو كرجس من عمل الشيطان وفق رؤية مقاومين لا يقاومون، وكهجوم سياسي محدود النتائج من وجهة نظر مفاوضين لا يفاوضون.
وهكذا، وفي ظل الافتقار إلى برنامج عمل وطني مشترك، وقاعدة شعبية عريضة ومتماسكة، وأفق سياسي واقعي معلوم، تبدو الدعوات إلى إشعال انتفاضة ثالثة، مجرد رغبات ذاتية منقطعة عن الواقع الفلسطيني المدجج بمظاهر الإحباط، تنطوي على أجندات ذاتية ومصالح جزئية فصائلية مسكونة بهاجس الصراع الوحشي على بقايا السلطة، أكثر بكثير من هاجس البدء بمقاومة شعبية قادرة على مراكمة الإنجازات الوطنية والبناء عليها، بدلاً من تقويض المكتسبات القليلة السابقة وتبديدها في لعبة صفرية جديدة فاشلة.
ولعل أشد ما تتمناه حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، بل وتسعى إليه من دون كلل، هو أن ينجرف الفلسطينيون، على اختلاف دوافعهم ونوازعهم ورؤاهم، وراء أوهام لعبة القوة العسكرية، ومعاودة اللعب في هذا الملعب المفضل لدى هؤلاء القتلة، الذين برعوا دائماً وأتقنوا جيداً تظهير صورة الضحية كإرهابي وجلاد، وتساوقوا تماماً مع الحملة الدولية ضد التطرف الإسلامي، واختلقوا كل الذرائع والمسوغات اللازمة لتبرير فظاظتهم وعدوانيتهم، وبالتالي احتكار صورة الضحية اليهودية الأبدية الرابحة في ميدان صناعة المشهد التلفزيوني الملون.
إزاء ذلك كله، نضم صوتنا إلى أصوات الداعين إلى توسيع وتأطير سائر أشكال المقاومة الشعبية، المستندة إلى إستراتيجية وطنية شاملة، قادرة على تشديد الحصار على المحتلين، عبر أدوات كفاحية ملائمة وبرنامج عمل متصاعد، تقوم به إدارة سياسية لديها أهداف قابلة للتحقق، وقدرة على إعادة التقويم والمراجعة الشاملة، بما في ذلك مراجعة المنطلقات والأسس والرؤى السابقة، على نحو يعيد إنتاج صورة فلسطينية عفيّة، وكينونة قادرة على قطف عناقيد العنب الناضج من كروم المقاومة.

بقلم عيسى الشعيبي

» خربشات من الانتفاضة
» الانتفاضة في الادب الفلسطيني
» المقاومة الفلسطينية في عيون الإسرائيليين
» الانتفاضة ليست دواء 'أبوفاس'!
» الدوايمة \رصد سقوط صواريخ المقاومة على احد المستوطنات