فات منسية من ذاكرة "النكبة".. مجازر "مُرّان" و "الدوايمة" و "الفالوجة"
العرب اليوم - محمد ابو عريضة
.. في الوقت الذي كان فيه الرئيس الامريكي »جورج دبليو بوش« يلقي خطابه امام »الكنيست« الاسرائيلي اول امس, مشاركا »الدولة الصهيونية« احتفالها بالذكرى الستين لانشائها عام ,1948 يستذكر فلسطينيون من جيل النكبة - الذين ولدوا قبل عام 1948 - المجازر الكثيرة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في عشرات القرى الفلسطينية لاجبار اهلها - السكان الاصليين - على الرحيل منها, ليحل مكانهم يهود جاءوا من كل اصقاع الارض, ملبين دعوات الحركة الصهيونية لتحقيق خرافة تعشعش في عقول نسبة من منتسبي الديانة اليهودية.
وعلى الرغم من ان »السادية« التي اتسم بها سلوك العصابات الصهيونية ابان نكبة فلسطين ,1948 وهي ترتكب افظع انواع جرائم الحرب بحق الفلسطينيين - سكان البلاد الاصليين - الا ان شعوب العالم خاصة الغربية منها لم تعترف بهذه الجرائم الا بعد مرور نصف قرن من حدوثها, وذلك لاكثر من سبب, لعل من ابرزها التعتيم الاعلامي على تلك الجرائم, وضعف الارادة العربية حينذاك لاشاعة اخبار فلسطين الحقيقية على المستوى الدولي, وفق الباحث د. سليمان ابو ستة كما جاء في مقالات منشورة له, ومقابلات متلفزة معه اضافة الى ان الشعوب الغربية, خاصة شعوب وسط وشرق اوروبا كانت على استعداد للتغاضي عن موت عدد من الفلسطينيين على ايدي العصابات الصهيونية مقابل خلاصهم من قرف - حسب تعبير احد المؤرخين الروس - اليهود, الذين ظلوا لقرون طويلة معضلة أوروبا المستعصية.
حسب مراقبين ومحللين سياسيين تتحمل الدول التي صنعت اسرائيل كدولة على ارض فلسطين المسؤولية التاريخية عن مأساة الشعب الفلسطيني, وعليها ان تعيد الاوضاع الى ما كانت عليه قبل نكبة عام 1948 حينما كانت »الاقلية اليهودية« في فلسطين لا تمتلك سوى 8% من ارض فلسطين التاريخية كما ورد في ابحاث ابو ستة, كما ان من واجب نفس تلك الدول - بريطانيا وفرنسا والمانيا وامريكا بشكل اساسي - تحمَّل مسؤولية الاثار الكارثية التي سببتها نكبة فلسطين على أهلها, خاصة اقارب ضحايا المجازر الصهيونية, ولولا اختلال موازين القوى الان, وغياب العدالة في العالم, لكانت قضية ضحايا المجازر الصهيونية منذ سنوات طوال احدى اهم القضايا التي تقلق الضمير العالمي.
حقائق وارقام
بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 »805« آلاف لاجئ, وهم سكان 531 قرية ومدينة, وتمثل اراضيهم التي شردوا منها ما مساحته 92.6% من ارض دولة اسرائيل, وظلت الاوضاع على طرفي خط الهدنة, بعد توقيع اسرائيل آخر اتفاقية هدنة مع سورية في تموز ,1949 على حالها, ولكن العصابات الصهيونية أخذت تخطط لتوسيع رقعة الارض التي حصلت عليها, خاصة وان الدول العربية التي دخلت جيوشها حرب فلسطين 1948 كانت غارقة في تفاصيل اخرى غير مخصصة للموضوع الفلسطيني, فقامت الوحدة 101 التي كان يقودها رئيس وزراء اسرائيل السابق »اريئيل شارون« بتاريخ 2 ايلول 1950 بارتكاب مجزرة جديدة بحق عرب العزازمة - من بدو السبع - كما ارتكبت مجزرة اخرى في العرقوب - في صحراء فلسطين الجنوبية - بحق عرب العتايقة, وطرد نصف سكان النقب الذين صمدوا في اراضيهم الى مصر والاردن وكذلك طرد سكان المجدل الذين رفضوا الهجرة سابقا على يد »موشي ديان«.
اعتبرت دولة اسرائيل الفلسطينيين الذين صمدوا في ارضهم, واصبحوا تحت سيطرتها اسرى حرب تحت الحكم العسكري وظل الوضع كذلك الى العام 1966 وصادرت السلطات العسكرية ثلثي اراضيهم - وهي لا زالت مصادرة.
كشفت ابحاث ودراسات حديثة وفق ابو ستة ان المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينين كانت تهدف لافراغ الارض من اهلها, وما عملية »هافا رميزيت« التي نفذتها مجموعة صهيونية في كفر قاسم, وذبح فيها العشرات من ابناء البلدة الا انموذجا لتلك السياسة الصهيونية, ومع ان الرئيس الامريكي المؤيد لاسرائيل »هاري ترومان« اصر عام 1949 على ان تعيد اسرائيل 300 الف لاجئ الى ديارهم وهم الذين احتلت العصابات الصهيونية اراضيهم خارج خطة التقسيم المستندة لقرار الامم المتحدة 181 وتشكل اراضي هؤلاء 24% من مساحة فلسطين, الا ان اسرائيل لم توافق الا على اعادة مئة الف منهم, وذلك لتفادي الضغط الامريكي عليها, فالرئيس »ترومان« وضع شرط اعادة هذا العدد من اللاجئين لموافقة امريكا على قبول اسرائيل عضوا في الامم المتحدة, ومع ذلك فان اسرائيل بعد ان وافقت الدول الكبرى على عضويتها في المنظمة الدولية تراجعت عن وعدها باعادة مئة الف لاجىء وخفضته الى 65 الفا, على اعتبار أن 35 الف لاجىء سبق وتسللوا الى ديارهم, ووضعت شروطا تعجيزية امام عودة الباقين وفق ما عرف آنذاك بسياسة »لَمْ الشَمِلْ«.
الذين تسللوا..!
استقر الفلسطينيون الذين هاجروا من قراهم ومدنهم في الضفة الغربية, ولبنان وغزة, وسورية, ومصر, ولكنهم لم يشعروا بأن غيبتهم ستطول, خاصة الذين ظلوا على مقربة من اراضيهم في الضفة الغربية والجنوب اللبناني وقطاع غزة, ولعل حجة اسرائيل في تخفيض 35 ألفا من الذين سمحت لهم من اللاجئين بالعودة الى ديارهم وفق شرط »ترومان« يحمل جزءاً من الحقيقة لجهة ان الفلسطينيين لم يتوقفوا الى اليوم عن محاولات التسلل الى فلسطين, خاصة في السنوات الاولى بعد »النكبة«.
وتستذكر الحاجة سارة سعيد وهي من مواليد 1937 في »خربة البرج« التابعة لـ »دورا - الخليل« الاحداث الجسام التي ألمت بهم خلال وبعد نكبة فلسطين, وتتحدث عن عشرات الرجال من بلدتها الصغيرة - البرج - الذين قتلتهم العصابات الصهيونية خلال السنوات 1948 و 1949 و ,1950 فعلى الرغم من ان خط الهدنة جاء على الحافة الغربية لبلدتها, الا ان السكان فقدوا آلاف الدونمات من الاراضي الخصبة غرب البلدة, التي استولت عليها العصابات الصهيونية, فخط الهدنة كما تقول ابقى لمعظم اهالي البلدة المغارات والبيوت الطينية, والاراضي غير الخصبة شرق البلدة فقط, الامر الذي جعل الرجال يتحسرون على خسارتهم, ويدفعهم للمغامرة واجتياز خط الهدنة باتجاه الغرب, والجنوب الغربي من البلدة لزراعة اراضيهم, وجني محاصليها, وغالبا ما كانت العصابات الصهيونية تراقب تحركات السكان, وتعرف ماذا يفعلون, وحسب تقدير الحاجة سارة كانت تترك الرجال يفلحون اراضيهم من دون ان تتدخل, ومن دون ان تشعرهم بوجودها الى ان تنضج الثمار - معظم المزروعات من الحبوب - فتتدخل العصابات وتقتل الرجال وتستولي على المحاصيل, الاغنام والابقار والجمال والحمير التي كانت معهم.
وتقول الحاجة سارة إن اول الذين تسللوا ممن قتلتهم العصابات الصهيونية هو احد اقاربها واسمه يوسف محمود الشعار, وكان متزوجا وله اربع بنات وولد, وكان في نهاية الثلاثينيات من عمره, وتلاه اثنان من اقاربها هما بدوي خليل دسّه 20 سنة ومحمود محمد الشعار 20 سنة, وكان قد خطب فتاة قبل فترة وجيزة, وقد قتلتهما عصابة صهيونية حينما تسللا الى منطقة اسمها »مجيدلات« - 30 كيلو مترا الى الجنوب الغربي من »البرج« - ليزرعا ارضهما بالتبغ, وقتلت العصابات ايضا عبد النبي احمد الشعار 40 سنة, وعبد الحميد حسن محمد ابو مقدم, ومحمد موسى الاطرش - كان قد تزوج قبل 6 شهور-, ومحمد حماد ابو عريضة 18 سنة, وعبد المهدي محمد عبد الفتاح ابو عريضة 20 سنة.
وفي ايار 1949 كما تتذكر الحاجة سارة اختفى احد اقاربها وهو طالب حسين احمد الشعار, وبعد بحث مضن لمدة ستة شهور وجده احد الرعاة جثة مدفونة تحت »رُجْم« من الحجار - من رَجم بالحجارة - وبجانبه جثة جمله الذي كان يرافقه, حينما ذهب الى الغرب من »البرج« ليحصد »الزرع« في ارضه المغتصبة.
وتقول ان العصابات الصهيونية ارتكبت في شهر نيسان او اذار - ذاكرتها تخونها - في »خربة مُرَّان« التي تبعد عشرة كيلو مترات الى الغرب من »البرج«, وتحديدا في وادي اسمه وادي القمح - سُميَّ كذلك لان الارض فيه كانت خصبة وتطرح كميات كبيرة من القمح - حينما اقدم افراد من عصابة صهيونية على قتل اكثر من عشرة رجال وفتاة من قريتها الصغيرة ومن قرية بجوارها اسمها »بيت مرسم«, فحسب روايتها كان ثلاثة من ابناء محمد حجة, احدهما كما تذكر اسمه حسين, والثاني يوسف والثالث لا تذكر اسمه ورجل اسمه حسين العمايرة, وسبعة رجال من »بيت مرسم« يرعون اغنامهم في ذلك الوادي فانقضت عليهم العصابة الصهيونية وقتلتهم وسرقت اغنامهم, وكانت فتاة في الثالثة عشرة من عمرها وهي ابنة حسين العمايرة قد حضرت الى والدها من »البرج« مشيا لتزويده بالاكل قد وصلت الى والدها قبل انقضاض العصابة الصهيونية بلحظات قصيرة فكان قدرها وماتت مع والدها.
حصار »الفالوجة«
بعد ان تخلى رئيس وزراء مصر عام 1948 »النقراشي باشا« عن معارضته دخول الجيش المصري الى فلسطين وموافقة مجلس النو اب المصري آنذاك, دخل الجيش المصري المعارك, لكن تبين أنه جيش غير مستعد لخوض معر كة شأنه شأن كل الجيوش العربية التي دخلت معارك فلسطين 1948 وبعدما نسفت العصابات الصهيونية جسر »بيت حانون« وقطّعت اوصال الجيش المصري وخطوطه على الساحل الفلسطيني مما اضطر القيادة لسحب القوات من السدود والمجدل الى غزة, مما شكل للعصابات الصهيونية فرصة ثمينة لاحتلال مدينة بئر السبع وكان ذلك في 21 تشرين اول 1948 فوجدت بذلك قوات البكباشي - مقدم - طه و»اليوزباشي« - رائد- جمال عبدالناصر محاصرة في قطاع الفالوجة - »قطاع« مصطلح عسكري -, وبسقوط بئر السبع انقطع الاتصال بين القوات المصرية في بيت لحم والخليل.
تحدث كثيرون عن حصار الفالوجة وعن بطولات الجيش المصري وبطولات الاهالي في ذلك الحصار خاصة ان جمال عبدالناصر الذي كان مع المحاصرين اصبح بعد ذلك باربع سنوات قائدا لثورة تموز 1952 في مصر ورئيسا لجمهورية مصر وزعيما عربيا, ولكن لم يتحدث احد عن الكيفية التي تمكنت فيها القوات المصرية من الصمود شهورا من دون ان تأتيهم تعزيزات ومساعدات وتروي الحاجة سارة عن والدها سعيد انه تمكن من مساعدة الجيش المصري على كسر حصار الفالوجة اكثر من مرة وادخال مؤن وعتاد للجيش والاهالي المحاصرين.
وتقول ان احد الضباط المصريين دخل في مساء احد الايام في نهاية عام 1948 الى قرية »البرج« ومعه جنديان مصريان ودليل من »عرب السبع« وسأل اول من صادفه عن رجل في الاربعين من عمره اسمه سعيد فاجاب الرجل الذي سُئل »عن اي سعيد تسأل سعيد تايه, ام سعيد القزقي ام سعيد عودة الله«?
فأجاب الضابط »اريد سعيد الذي يستطيع ايصالنا الى الفالوجة, فرد لقد وصلتم, انه شقيقي وغدا يأتي«.
وتسرد الحاجة سارة تفاصيل تسلل والدها سعيد عودة الله من غرب الخليل الى الفالوجة - اكثر من 40 كيلو متراً - وكسر الحصار المفروض على الجيش المصري والاهالي فيها وتقول ان والدها تمكن في المرة الاولى من قيادة قافلة من سبعين جملا تحمل المؤن والعتاد عبر طرق ومسارب يعرف ادق تفاصيلها وان يدخل قرية »عراق المنشية« - قرية صغيرة ملاصقة للفالوجة- فوالدها كما تقول كان تاجر سلاح ويعرف فلسطين خاصة المناطق الجنوبية منها معرفة تامة, وتشير الى ان والدها كسر حصار الفالوجة ثلاث مرات وان جمال عبدالناصر عرض على والدها الانضمام الى الجيش المصري برتبة ضابط لكنه رفض.
شهادة من داخل »الحصار«!
محمد حسين عبدالفتاح ابو عمران من مواليد الفالوجة عام 1935 التقته »العرب اليوم« في منزله في مخيم مادبا وتحدث باسهاب عن حصار »الفالوجة« ومعاناة الاهالي في القرية وفي قرية »عراق المنشية« التي حوصرت مع »الفالوجة« لانها ملاصقة لها ويقول ان والده واعمامه قرروا الرحيل بعد احتلال العصابات الصهيونية جزءا من بلدة »عراق المنشية« فالاخبار التي كانت قد وصلتهم عن المجازر الصهيونية في القرى الاخرى دفعتهم للرحيل فحملوا بعض الاثاث البسيط بعد ان القوا بما هو ثمين من مصاغ واشياء اخرى في بئر للعائلة على اعتبار انهم عائدون قريبا.
ابو عمران الذي يحب اطلاق لقب »ابو يوسف« عليه لم يغادر مع والده واعمامه بل بقي مع جده وجدته لوالده اللذين كانا في الثمانينيات من العمر, ولكنه بعد ثلاثة شهور من الحصار قرر مغادرة القرية بناء على رغبة جده وجدته, خاصة وان الصهاينة ضربوا البلدة بالطائرات فغادر ومعه عشر بقرات كان جده قد طلب منه اخذها وظل يمشي مع البقرات بحدود ثلاثين كيلو متراً الى ان وصل الى قرية »الدوايمة« مساء اليوم الذي غادر فيه بلدته ولم تكن »الدوايمه« قد سقطت بعد في ايدي الصهاينة, ومع انه التقى بوالده ووالدته وشعر بالالفة والسكينة معهما الا انه قرر العودة الى »الفالوجة« في اليوم التالي, فقد شعر بالغربة مع ان الصلات بين اهل االدوايمة واهل الفالوجة علاقات متينة والانتقال من »الفالوجة« الى »الدوايمة« من المفروض كما يقول ان لا يعكر صفوه خاصة انه علم من والده ان اعمامه الستة كانوا قد عادوا الى الفالوجة في نفس اليوم الذي غادرها هو, ويبدو انه سلك طريقا لم يسلكه اعمامه فهو لم يلتقهم في الطريق.
عاد ابو يوسف مع البقرات, فوالده قال له ان البقرات ستنفق مع الرحيل وعدم الاستقرار, لا سيما ان الانباء التي كانت تصلهم كانت تفيد الى توجه لدى العصابات الصهيونية لاحتلال »الدوايمة« وهذا ما حصل بالفعل, فقد غادرت عائلته »الدوايمة« بعد رحيله بايام الى »دورا - الخليل«, وبعد اسابيع هاجمت العصابات الصهيونية »الدوايمة« وارتكبت فيها اكبر مجزرة في فلسطين, فقد ذبحت فيها كما يورد د. ابو ستة بحدود 500 شخص من سكانها, والغريب ان هذه المجزرة ظلت مخفية عن الرأي العام مدة طويلة, ولا زالت تفاصيلها غير معروفة.
يتابع ابو يوسف ويقول انه عندما عاد الى »الفالوجة« عرف بالمجزرة التي ارتكبتها طائرات العصابات الصهيونية بحق اهل بلدته المحاصرين, ففي احدى الغارات استشهد خمسة من اعمامه الذين عادوا من »الدوايمة« الى »الفالوجة« ليتزودوا من بلدتهم بالحبوب, فوضع الناس في »الدوايمة« كما في كل البلاد لم يكن احسن حالا من وضع المحاصرين في »الفالوجة«, ويشير الى ان جده لوالده ارسله بعد مدة مع قافلة من الاهالي في الليل الى قرية »ام الشقف« التي تقع في منتصف المسافة ما بين قرية »البرج« و »الفالوجة« وفيها شاهد كيف كان يسكن اللاجئون في المغارات, ومع ذلك فقد استولت العصابات الصهيونية في وقت لاحق على »ام الشقف« وطردت اهلها واللاجئين الى الشرق.
المصدر:
http://www.alarabalyawm.net/print.php?news_id=93193