القدس والناصرة في عيون كراتشوفسكي

القدس والناصرة في عيون كراتشوفسكي

بقلم بشار منافيخي ـ كاتب وباحث سوري ـ دمشق

اتخذت الرحلات التي قام بها الرحالة إلى القدس منذ القرن السادس الميلادي عدداً من الأهداف والغايات فكانت إما للحج أو للتجارة أو للكشف الجغرافي لمعرفة الطرق والمسالك، أو للسياحة للاطلاع على المعالم الدينية والتاريخية وغيرها من الأمور. ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي اتخذت الرحلات مقاصد جديدة هدفها الاطلاع على ثقافة شعوب الشرق لدراسة عاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم ولهجاتهم، ومنهم من قصد بزيارته إلى القدس الاطلاع على المخطوطات والكتب القديمة والتعرف على العلماء والأدباء وحضور مجالسهم، وكان من أبرز هؤلاء الرحالة الروسي إغناطيوس كراتشوفسكي (1883 ـ 1951)، وقبل الحديث عن هذه الزيارة نقدم فيما يلي لمحة عن حياة هذا الرحالة واجتماعه بأدباء وشعراء البلدان التي زارها.
كراتشوفسكي
هو إغناطيوس يوليانوفيتش كراتشوفسكي، ولد في فيلنا عاصمة ليتوانيا القديمة عام 1833 وانتقل أبوه إلى مدينة طشقند وعمره سنتان فكان أول ما تفتح عليه بصره المعالم الإسلامية والحياة الشرقية في المدينة، وبعد تلقيه علومه الأولية سافر إلى مدينة بطرسبورغ (لينغراد) لمتابعة تعليمه الجامعي فانتسب إلى معهد اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ وتعلم اللغات العربية والفارسية والتتارية والتركية والحبشية القديمة والعبرية ثم انتسب إلى قسم اللغة العربية في كلية الدراسات الشرقية ونال الإجازة عام 1905 ثم تابع دراسته العالية وحصل في العام 1908على درجة الماجستير وكان موضوعها عن حياة الشاعر (الوأواء الدمشقي ) وديوانه، وكانت اللغة العربية وآدابها هي حب كراتشوفسكي حيث اعتبرها جزءا من سحر الشرق، وعندما رأى أساتذته في الجامعة هذا الاهتمام من كراتشوفسكي أوفدوه ببعثة علمية إلى سورية ولبنان وفلسطين ومصر ما بين عامي 1908 ـ 1910، وخلال هذه البعثة تابع كراتشوفسكي البحث والتنقيب والتواصل مع أعلام الكتاب المبدعين العرب في تلك الدول أمثال: أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وجرجي زيدان وأحمد زكي باشا ومحمد كرد علي ولويس شيخو، وعدد من المستشرقين الأجانب المقيمين في تلك البلدان وقام كراتشوفسكي خلال رحلته بنسخ العديد من المخطوطات العربية النادرة وأرسلها إلى جامعته، وخلال رحلاته في تلك البلدان اكتشف عددا من المخطوطات المجهولة كرسالة الملائكة للمعري، وديوان الشاعر سلامة بن جندل، وكتاب المنازل والديار لأسامة بن منقذ وغيرها، وبعد عودته إلى بلاده عُين مديرا لمكتبة فرع اللغات الشرقية في كلية بطرسبورغ ثم مدرسا للغة العربية والقرآن الكريم منذ عام 1919 وحتى عام 1949، وتابع خلال عمله بالتدريس بحوثه عن الشعراء والأدباء العرب فنشر ديوان ابن المعتز وقام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى الروسية وأثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية وحصار مدينة لينغراد شتاء 1941ـ 1942 قام بترميم المخطوطات القديمة ثم تعرض للمرض، وتمكنت السلطات السوفييتية من إخراجه من المدينة المحاصرة، وبعد الحرب منحته الحكومة السوفييتية أعلى وسام وهو وسام لينين تقديراً لمآثره العلمية الفذة، وتابع بعدها دراساته وبحوثه حتى وفاته عام 1951، ومن أشهر آثاره التي خلفها: «مع المخطوطات العربية»، «تاريخ آداب اللغة العربية»، «تاريخ الأدب الجغرافي العربي»، «تاريخ الاستعراب الروسي».
جولاته في فلسطين
قام كراتشوفسكي خلال بعثته العلمية بجولة في المدن الفلسطينية واطلع على عدد كبير من المخطوطات والكتب القديمة في المكتبات الشهيرة، وتعرف خلال زيارته لمدينة الناصرة على المعلمة كلثوم عودة( 1892 ـ 1966 ) التي رافقته في زيارته للناصرة وضواحيها، ويتحدث كراتشوفسكي في كتابه «مع المخطوطات العربية»عن لقائه بكلثوم عودة قائلاً:«قابلت كلثوم عودة في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في المجالات العربية»، وقد نقل الدكتور عمر محاميد في كتابه الذي تناول فيه حياة هذه المربية ما ذكرته عقيلة كراتشوفسكي فيراكراتشوفسكايا بأن كلثوم عودة ودعت زوجها أثناء مغادرته الناصرة بنشيد منه هذه الأبيات:
أحبابنا قد وقفنا كي نودعكم * وقلبنا بلهيب الحزن يشتعل
فهل أودع روحي أم أودعكم * سيروا بأمن فإن الرب يحفظكم
وتشاء الصدف أن تتزوج كلثوم عودة عام 1914 من الطبيب الروسي، ايفان فاسييليف، الذي كان يعمل طبيب في الجمعية الفلسطينية الروسية بالناصرة، وتسافر معه للإقامة في روسيا، وأثناء إقامتها هناك فكرت كلثوم عودة بمتابعة دراستها، وسافرت إلى بطرسبورغ واجتمعت خلالها بالعلامة كراتشوفسكي الذي ساعدها على الالتحاق بقسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ وفي دراستها الأكاديمية، وقد عبرت عودة عن استفادتها من مساعدة كراتشوفسكي قائلة: «لقد علمني كراتشوفسكي أشياء كثيرة جميلة عن شعبي العربي لم أكن أعرفها من قبل فازدادت سعادتي بالأمل أنه لابد لنا نحن العرب من مستقبل لا يقل مجد عن الماضي»، وعرفانا بالجميل قامت عودة بترجمة بعض مؤلفات كراتشوفسكي إلى العربية.
كراتشوفسشكي في القدس
منذ وصول كراتشوفسكي إلى القدس عام 1909 أخذ ينقب ويبحث عن المخطوطات العربية في المكتبات المقدسية الشهيرة المنتشرة في المساجد والمدارس القديمة، وفي المكتبات الخاصة بالأدباء والشعراء والعلماء وكانوا يدعونه لحضور بعض مجالسهم الأدبية، وقد وصف الكاتب الروسي تيودورف في مقالة نشرتها له جريدة «ريتش» التي كانت تصدر في مدينة بطرسبورغ الروسية، أحد المجالس الأدبية التي حضرها مع كراتشوفسكي في مدينة القدس عند بندلي صليبا الجوزي ال1ي كان يدرس في جامعة قازان الروسية قائلاً:«اجتمعت ببعض أدباء القدس في منزل الخواجة بندلي الجوزي أستاذ اللغة العربية في كلية قازان وكان مع الخواجة المستشرق الروسي كراتشوفسكي وكان قد جاء الشرق في مهمة، فأقام في مصر وسوريا وفلسطين لهذه الغاية سنة ونصف السنة فأتقن اللغة العربية وتخلق بأخلاق العرب وعاداتهم. أما الأدباء الذين أشرت إليهم فهم الأستاذ خليل السكاكيني والشاعر الكاتب إسعاف النشاشيبي، وجميل الخالدي، وكان حديثنا بعضه بالفرنسية وبعضه بالانكليزية وأكثره بالعربية وكان رفيقي المستشرق وصاحب المنزل يترجمان الحديث وكنت أسمع وأنا مسرور ومرتاح لحديث هؤلاء الشبان المتقدين ذكاء وحماسة ووطنية، وقد علمت أمور كثيرة مما لا نعلمه من الأوربيين عن هذه الأمة العظيمة بتقاليدها وتاريخها وأدبها، ولا يخفى أن السياح الأوربيين، إذا كتبوا شيئاً عن سورية وفلسطين، إنما يلتقطون ذلك من أفواه الحوذيين والحمالين والباعة المتجولين (..)»، إلى أن يقول:«(..) كنت جالساً أسمع اللهجة العربية وكأني أسمع أنغاماً موسيقية جميلة يستشف فيها القوة والعناد، وكأن تلك الألفاظ نار تستعر حدة ثم لا تلبث أن تخمد فيستولي بعدها التأمل والسكينة» ثم يقول : «وبعد أن مضى هزيع من الليل اقترحت على النشاشيبي أن يسمعنا شيئاً من شعره فأنشدنا قصيدة في الحرية «ذكرى فتاة مكدونيا»:
أخطري اليوم في البروع اختيالا * لا تخافي من العدو اغتيالا
لا تخافي من كيده، لا تخافي * إن كيد العدو ولى وزالا
ارتحت إليها كل الارتياح وأكبرت المعنى العربي العظيم في اللفظ العربي الفخم وخلت وخلت كأني أسمع أصوات جمهور لا فرد، كان هذا الشاعر يقرأ قصيدته وفي كل نبرة من نبراته معان عظيمة، وقد ظهر لي وهو يقرأ نشيطاً عنيدا متحمسا، هذا الشاعر عربي قبل كل شيء، مسلم ولكنه يمتزج مع إخوانه المسحيين امتزاج الروح والماء».
وأخيرا أكد كراتشوفسكي بأن علم الاستعراب الروسي يهدف من وراء البحث في ثقافة الشرق إلى مد جسور للتواصل الثقافي بين الغرب والشرق ليكرس حوارا حضاريا بين تلك الشعوب، على عكس ما يهدف إليه الاستشراق الغربي الذي يكرس أبحاثه ودراساته في سبيل غايات استعمارية تخل بقواعد العلم الشريف الذي يجب أن يسخر من أجل سعادة البشرية جمعاء.

المراجع:
ـ الزركلي: الأعلام ـ الجزء الأول.
ـ كراتشوفسكي: «مع المخطوطات العربية»ـ دار التقدم ـ موسكو 1969.
ـ د. عبد الرحمن ياغي:«حياة الأدب الفلسطيني الحديث».
ـ نصري الجوزي: «شخصيات فلسطينية ـ بندلي صليبا الجوزي» مجلة «الكاتب الفلسطيني»العدد 20 صيف 1990.
ـ عيسى فتوح: «أدبيات عربيات »ـ دمشق 1994.

ـ د.عمر محاميد: «كلثوم عودة من الناصرة... إلى سان بطرسبورغ».

» كل المدن بتنام الا عيون القدس صاحية ما بتنام
» حزام استيطاني.. بلدية القدس تخطط لبناء 15 الف وحدة استيطانية في القدس
» القدس القديمة هي مركز مدينة القدس العاصمة ألابدية للثقافة العربية
» لأنهــا القدس دعوة لرفع مجموعة من الكتب عن القدس و فلسطين
» رأي القدس \مستوطنة القدس والردود 'الصوتية' الغربية