الموت أنواع! رشاد أبو شاور

الموت أنواع!
رشاد أبو شاور

7/14/2010

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

مرثية الرجل الطويل
الصديق العتيق بن بلاّ، وهذا اسمه الحركي، أحمد عبد الكريم الحيح، أنشط كتّاب التعليقات في 'القدس العربي'، الإعلامي والدبلوماسي، رفيق معركة بيروت، عاتبني الأسبوع الماضي في تعليقه على مقالتي عن الفساد، لأنني لم أكتب مباشرة عن رحيل صديقنا المشترك (أبو داوود).
في رسالته يقول بأنه تراهن مع زوجته (أم زياد) ـ وهي تونسية، ابنة قيادي كبير في النضال التونسي لنيل الاستقلال عن فرنسا ـ عن ما سأكتبه في (هواء طلق) الأربعاء الماضي.
عندهما حق أن يتوقعا أن أبادر فورا للكتابة عن صديق، هو واحد من أبرز القيادات الفتحاوية، كان قريبا منّا نحن الكتّاب والشعراء والإعلاميين، وذلك لعلاقته بصديقنا المشترك الكبير ناجي علوش، منذ بدأنا نلتقي في العاصمة الأردنيّة عمّان بعد هزيمة حزيران (يونيو) 67.
ما كان لي أن أكتب مسابقا السيّارة السوداء التي حملت جثمان (أبو داوود)،
متخففا من الحزن والحرج بكلمات قليلة عاطفية عابرة، كما هو الشأن في كتابة المراثي الفلسطينيّة.
اذكر أن أحدهم استوقفني في (الفاكهاني)، وبادرني بالعتاب: لماذا لم تكتب عن ماجد؟ يقصد ماجد أبو شرار.
سألته: وماذا كتبتم أنتم؟! أن قصصه كأرغفة الخبز، وأن وجهه مثل تراب الخليل؟ أنا لا أكتب كلاما لا موقف فيه، كلاما لا يُغضب، لا معنى له، عاطفي، شديد التفاهة، لا وفاء فيه، بل هو تنصّل وتهرّب من قول كلمة الحق المُكلفة.
بعدئذ كتبت: إنّي أتهم. .رويت في تلك المقالة شهادتي عمّا حدث في (روما) حيث اغتيل ماجد، وجهت فيها أصابع الاتهام ـ نُشرت كمقدمة لكتابي ثورة في عصر القرود ـ وطويت عملية اغتيال ماجد، وصمت من دبّجوا المقالات العاطفيّة، فقد برّأوا ضمائرهم، وتنافسوا في أناقة عبارات الإنشاء..وليرحم الله الشهداء، كما يردد الجزائريون!
أبو داوود حياة ممتدّة، ومحطات، ومواقف، ومسيرة نضالية، ولذا لا يمكن اختصار حياة الرجل ببضع كلمات، وجمل، وأسطر، فحياته تداخلت بحياتنا، وبما طرأ على فتح من تغيّرات، وتحولات سياسيّة، وانشقاقات.
بدأت معرفتي به في عمّان، وتطورت في دمشق وبيروت، اتفقنا أحيانا، واختلفنا أحيانا، فقد أدهشني أنه على علاقة تنظيميّة مع (أبو نضال)، ما غيره ! و..هنا أتوقف فليس هذا أوان المحاسبة، فالرجل تماهت حياته مع آخرين، منهم الأحياء، ومنهم الراحلون.
الجوانب الأمنية، لا بد أن يكتبها من عايشوه فيها، ومن شاركوه في عمليّات بعينها، فهم أعرف وأدرى بالخلفيات، و..بالمفاجآت التي باغتته، وأوقعته ضحية الارتجال والوشاية.
بعد انكشاف محادثات أوسلو، والبدء في الرحيل عن تونس، فوجئت بأن (ابو داوود) عُيّن رئيسا للجنة القانونيّة ـ وهو دارس للحقوق ـ وأنه سيتوجه إلى غزّة أريحا أولاً.
زارني في مكتبي، في دائرة الإعلام والثقافة، وسألني عن سبب رفضي (العودة) إلى (الوطن)، وخضنا جدلاً ممتدا، فسألته: هل أنت مطمئن إلى أن العدو سيتسامح معك، وأنت أحد أبرز من يطاردهم لدورهم في عملية (ميونيخ)؟!
لم اقتنع بجوابه، وافترقنا على خلاف، وشيء من التوتر على غير العادة.
التقينا كثيرا فيما بعد، في عمّان، ودمشق، وكان قد غادر (الوطن) و..نفذ من قبضة سلطات العدو، ثمّ استقر به المقام في دمشق إلى أن رحل..يرحمه الله.
غيّر أبو داوود موقفه من أوسلو، وبات معارضا، و..تصافينا دون عتاب. لم أسأله عن اللجنة القانونيّة التي رأسها، إن كانت قد مارست دورها، وإن كان ثمّة قانون سوى قانون الاحتلال في الضفة والقطاع!
مرّةً كنّا في (بودابست) في مصحّة للعلاج من آلام الظهر، اقترب مني في عتمة المكان شخص غامض، وهمس سائلاً: أين الرجل الطويل؟! كان أبو داوود قد غادر قبل يوم إلى مكان لم يخبرني به.
عندما التقينا مازحته: أيها الرجل الطويل: حِل عنّي..فأنت مطارد، فهناك من يسأل عنك يا ظريف الطول.
كان يتنقّل في الدول الاشتراكيّة، بعد أن غادر مواقعه الفتحاوية، ويعيش حياة شبه متخفية ـ فطوله فضّاح، فهو صارية تنبثق في الفضاء ـ وجرت محاولة قتله في (وارسو)، وظل ما فعله الرصاص بفكّه ووجهه باديا للعيان، ولعله أثّر حتى على طريقة نطقه، وإن لم يمنعه من أن يجهر بالنقد، ولا يخفي وجهه الحزن، وصوته الحنين إلى أيّام (العز). . أيّام البدايات، أيّام المقاومة التي لم يكن قد داخلها الفساد والانحراف بعد.
نشر أبو داوود مذكراته بالفرنسيّة، في وقــــــت غير مناسب، وتعرّض للنقد على سوء التوقيت، و..ما ورد فيها من أمور لا لزوم لكشفها.
ماذا أكتب يا بن بلاَ، ويا أم زياد؟ ما خفي أعظم! وهذا المخفي يخص شعبا، وحركة،و..أشخاصا كثيرين، أليس كذلك؟!

» لأسرى: الموت.. أو الحريّة رشاد أبو شاور 2013-02-26
» من هو رشاد أبو شاور
» الأديب رشاد أبو شاور
» الإفلاس! ..رشاد أبو شاور
» تاريخ من المذابح../ رشاد أبو شاور