الدوايمة / قصة حذاء العيد لزهدي الزمر

الأيام والشهور والسنين، تمر مرّ السحاب في حياة الأطفال ، لكن الذكريات تختزن المواقف والمشاعر يوماً تلو اليوم ، إذ تتساقط الأيام المنتهية من عمر طفولتهم مثل تساقط أزهار السفرجل حين تقترب منها ريح خجولة ، لكن "عايد" كان يحسب الأيام والشهور على طريقته الخاصة ، في كل يوم جديد يبدأ لديه إحساس الاستعداد للعيد ، العيد محبب إلى نفسه اعتاد التحضير له كلما دنى موعده ، يجمع المصروف

ويشتري الملابس والحذاء ، مصروف العيد كان يجمعه من بيع البيض ، يتجول في أزقة المخيم وشوارعه، وهو يحمل صحناً مملؤاً بالبيض ويصيح : بيض طازج ... بيض جديد ... والملابس يحصل عليها من " البقجة " الصرة التي توزعها وكالة الغوث على اللاجئين في المخيم ، احتفظ لنفسه معطفاً شتوياً من إحدى البقج التي استلمها ، المعطف اسود فضفاض ، مقاسه كبير عليه خبأه للعيد بفرحة غامرة ، أما الحذاء ... اشتهى بطفولته أن ينتعل حذاءاً برجليه ليتخلص من الصندل الذي يكره انتعاله لأنه يجمع الأتربة وحبات الحصى الصغيرة بين أصابع قدمه ، حصل على الحذاء عندما فتح " البقجة " ، ظهر له بين محتوياتها ، صاح فرحاً ، وطار عن الأرض ، حصل على أحلى أمانيه ، انه يمتلك الآن الكنز ، "عايد " سيضع في قدميه حذاءاً لم يكن يحلم به من قبل !!!
الفرحة بالحذاء لم تكتمل ، الحذاء فردتين مختلفتين في اللون ، فردة بيضاء وأخرى سوداء اللون ، انتكست فرحته وامتعض من داخله وبلع ريقه واخذ يفكر ... ماذا يفعل ؟؟ بدد انشغاله وهمه بالحذاء أن العيد بقي له ثلاثة أيام وهي فترة كافية ليجد حلاً ، فأنصرف يستمتع بصوت المسحراتي ( أبو حويلة ) الذي يجوب شوارع المخيم شارعاً شارعا وحارةً حارة ، يضرب طبله وينشد : يا نايم وحد الدايم
يطل " عايد " ببصره من النافذة ليرى المسحراتي وهو يربط الطبل على وسطه وبيده عصاً قصيرة من الخيزران يضرب بها الطبل، وبيده الأخرى فانوساً خافتاً
ليبدد عنه وحشة ليالي المخيم المخيفة ، كان " عايد " يشفق على ( أبو حويلة ) حين يسمع خبص نعاله بالطين والماء، وهو يتجول بين شوارع المخيم يسحر وينشد أغانيه التي يودع بها شهر رمضان ، أيام العيد تقترب لإنهاء شهر الصوم ، وبدأت الأراجيح تدق أخشابها وتنتصب، وأبو عيسى يحضر حنطوره ويجهزه ، يدهنه ويقوم بصيانة عجلاته وكرسيه وسرج بغله .
مظاهر العيد أخذت تبدو من حركة أهالي المخيم وإقبالهم على شراء التمر والسميد لصناعة الكعك والمعمول التي كان للمسحراتي أبي حويلة منها نصيب وما أن أعلن عن نهاية شهر رمضان انهمك " عايد" في تدبير أمر الحذاء ، هل يحول الفردة البيضاء للون الأسود بتجميع رماد الخشب ونقعه بالماء وطلاء الفردة البيضاء ؟ أم يحول الفردة السوداء للون الأبيض، بسحق الطباشير وبله بالماء ويطلي به وجه الفردة السوداء فيساوي بين الفردتين ، سهر تلك الليلة حتى ساعة متأخرة
على سراج زجاجته متشحة بخطوط سوداء ، كان نوره الخافت سبباً في تجمع الناموس والذباب حوله ، بدأ بطلاء الفردة السوداء بمسحوق الطباشير ، قبلت اللون الأبيض بعض الوقت ، تركها حتى الصباح كي يتشرب الجلد لون الطباشير، لينتعلها ويخرج في الصباح لابساً بنطال شقيقه الذي حولته والدته له من شقيقه الذي يكبره ، يلبس المعطف ، ويخرج صباح العيد مثل الباشا ، يركب حنطور" أبو عيسى" يطوف به حول المخيم .
مشى خطواته بحذر إلى ساحة الأراجيح وحيث يقف حنطور أبو عيسى المزركش بالألوان الزاهية ، وبغله يهز ذيله متضايقاً من تجمع حشرات " القراد " تحته ، اقترب "عايد" من عربة الحنطور بحذر حتى لا تصطدم فردة الحذاء المطلية بمسحوق الطباشير بعجلاته فيسقط المسحوق الذي يشكل قشرة رقيقة هشة أكثر هشاشة من قشرة البيض ، ركب الحنطور وجلس خلف السائس وتجمع الأطفال واندسوا في العربة، لم يبق اتساع لأحد في العربة ، شد أبو عيسى لجام البغل ونهره وأخذت عجلات الحنطور تدور ، والأطفال يصيحون ويغنون مبتهجون ( اليوم العيد بنعيد ... ونذبح بقرة السيد، والسيد ما عنده بقرة... نذبح بنته الشقرا) ومن يركب الحنطور في العيد فتحت عليه أبواب السماء ، عايد يجلس بين الصغار مثل الباشا الإقطاعي ، البغل تضرب حوافره الأرض، والعربة تسير فوق ارض حصوية، قرقعة عجلاتها واهتزازها وتمايلها يزيد الأطفال فرحاً وطرباً ليتناسوا الفقر والبؤس والشتات ، وصلت العربة نهاية الطريق ، اقفل أبو عيسى راجعاً ،وعايد يوجه نظره وحرصه إلى فردة الحذاء حتى لا تفسد عليه فرحته بالعيد ، إذ جفت الطباشير وبدأت تقشر وتنفصل عن جلد الحذاء وتتساقط رقائق دقيقة يظهر من تحتها اللون الأسود ، لمح فردة الحذاء وأخذ حذره أن يراه احد الصغار ، يداري الحذاء ، يراقب عيون الصغار كي لا تسقط نظرات احدهم عليه ، يحدث نفسه بغيظ شديد : ملعون أيها الحذاء ... تريد أن تفسد علي فرحتي بالعيد ... هذا يومي انتظره منذ عام... أريد أن تكتمل فرحتي بركوب الحنطور واستئجار دراجة هوائية وشراء السندوتشات ... هذا هو العيد !!!
مع الوقت بدأت المساحات السوداء في فردة الحذاء تكبر وتتسع ، معها يكبر قلق " عايد "وحزنه وتتقلص مساحات الفرح بالعيد لديه ، صاح احد الصغار في العربة : " عايد " لابس برجله حذاء كل فردة مختلفة عن أختها ، وبلونين مختلفين .
ضحك الصغار في عربة الحنطور ، وتمايلوا ببراءة ، والحوا على "عايد "
أن يروا لون الحذاء، وعلا صياحهم، تدخل أبو عيسى: ماذا بكم ؟؟ إياكم أن يسقط أحدا من العربة ، أجاب احد الصغار : "عايد "لابس حذاء فردة بيضاء وأخرى سوداء ، رد أبو عيسى وهو يكبح جماح بغله كي يتوقف : من منا في المخيم له لون ؟
اسكتوا ... لما تكبروا ستعرفون لما ذا لبس عايد الحذاء بلونين ؟؟؟ وقف الحنطور في الساحة وأقفل عايد راجعاً لمنزله وهو يسب ويشتم ويلعن الحذاء الذي تغير لونه ، وأيقن أن فرحة العيد تتغير من عام لآخر في المخيم ، رحل أبو حويله ولم يعد أحدا
يسمع طبله في سحور رمضان ، ورحل أبو عيسى ولم يعد حنطوره من معالم العيد في المخيم ، ولم تعد ( بقج ) الملابس توزع في الشتاء ... ولون العيد تغير ... حتى الحذاء تغير لونه !
زهدي الزمر ©