فلسطينيو مخيمات بيروت يتسمرون أمام شاشة «الوثائق» و«مصر»

فلسطينيو مخيمات بيروت يتسمرون أمام شاشة «الوثائق» و«مصر»

الكاتب : سعدى علوه ـ السفير

قبل ثلاثة أيام نهض أيمن قدورة (35 عاماً) من سريره في مخيم برج البراجنة ليستعد للذهاب إلى عمله، ففوجئ بسرير والده السبعيني فارغاً.
لم يكن من عادات أبو ايمن ترك البيت باكراً، ومن دون إعلام عائلته بوجهته. حاولت أميمة، شقيقة أيمن، طمأنته، مرجحة أن يكون والدها قد قصد صديقه «اللبناني» أبو وليد، ابن عديسة الجنوبية، الذي يقطن في منطقة الأوزاعي.
وفعلاً كان أبو ايمن قد قصد أبو وليد، ولكن ليس للزيارة. طلب الرجل السبعيني «خدمة عمر» من صديقه. طلب اليه ان يرافقه إلى الحدود الجنوبية من دون المرور على الحواجز الأمنية التي لن تسمح له بالعبور من دون تصريح خاص.
هناك، في الجنوب، وقف أبو ايمن حوالي ساعة من الزمن يتأمل من بعيد في منطقة الكابري في قضاء عكا، في الجليل الفلسطيني المحتل.
حنين أبو ايمن للكابري، مسقط رأسه، لم ينطفئ يوماً. هُجّر من بلدته مع عائلته عندما كان في العاشرة من عمره. ما يتذكره أبو ايمن قليل، ولكنه يحفظ الكثير من حكايا وتفاصيل قضى والده عمره يرويها، ويحلم بالعودة إليها. حلم ورثه أبو ايمن مع «حجة» تثبت ملكيته لعشرات الدونمات مع منزل في الكابري التي ساواها الغزاة بالأرض بعدما دمر مقاوموها قافلة عسكرية كاملة للإسرائيليين.
عندما بثت قناة «الجزيرة» تقريرها التلفزيوني عن وثائق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وبالتحديد الحلقة الخاصة بملف عودة اللاجئين، سمع أبو ايمن ما قيل عن تخلي السلطة عن عودة فلسطينيي الشتات، واقتراحها إعادة عشرة آلاف لاجئ كل سنة على مدى عشر سنوات، فيما ردت تسيبي ليفني بقولها ان المسموح عودتهم هو «صفر».
يقول أبو ايمن انه لم يكن يتوقع العودة إلى فلسطينه عبر المفاوضات «ولكن ان تعتقد شيء، وأن تسمع بأذنيك شيء أخر». شعر بشوق كبير إلى ارضه «حيث كرامتي وحريتي وانسانيتي ووجودي كإنسان»، فقصد الجنوب في نوبة حنين قاتلة.
قبل محاولته رؤية الكابري قبل ثلاثة أيام، كان أبو ايمن قد زار حدود فلسطين في العام 2000 مع تحرير الجنوب. يومها أشار إليه والده، الذي كان ما زال حياً في الثامنة والسبعين من عمره، إلى موقع بلدته، وقال له «أنا لن أعود قبل مماتي، ربما عدت أنت أو أبناؤك».
اليوم، يحسم أبو ايمن موقفه ويقول لأيمن ولأميمة «أنا لن أعود، ربما يعود أبناؤكم». يقول أن «التغيير يحتاج إلى سنوات طويلة، أتمنى أن يرى ايمن الكابري ويعيش فيها مع أولاده».
لم يخفف من الجدل الذي أثارته الوثائق السرية للمفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في مخيمات بيروت إلا ما يحدث في مصر حالياً.
من برج البراجنة إلى شاتيلا ومار الياس، ثبت الفلسطينيون في المنازل والدكاكين وصالونات الحلاقة والملاحم والمراكز الحزبية، شاشاتهم التلفزيونية على محطة «الجزيرة»: «بذلك، يصيب الناس عصفورين بحجر واحد»، وفق احمد خالد اللوباني (71 عاماً) من سعسع، قضاء صفد.
يتمثل «العصفوران» في متابعة ما يحصل في مصر من محاولات للتغيير من جهة، وانتظار وثائق إضافية تبثها الجزيرة من جهة ثانية. حتى مناصرو حركة «فتح» الذين يتهمون «الجزيرة» وفريق عملها بأنهم من «الجواسيس»، يواظبون على مشاهدة ما تعرضه من وثائق.
إيمان اللوباني ما زال كبيراً بـ«المحبة بين أبناء الشعب الفلسطيني»، وخصوصاً «بالعودة»، وعندما تسأله عن عمره فيتذكر انه في الحادية والسبعين يقول بحزن «يمكن أنا لن ارجع، بس أولادي سيعودون».
لا يخفي أبناء المخيمات الثلاثة ما حركته «الجزيرة» من نقاشات «حية» أحيانا و«حادة» أحيانا أخرى. يجد المنتمون إلى «فتح» أنفسهم في موضع اتهام، فيما يقول الناس أن كل فصائل منظمة التحرير معنية «فهي شريكة محمود عباس، وإلا فلترفع عنه الغطاء، وليقولوا أنه يفاوض باسمه وليس باسم المنظمة» حسب ما يقول فارس (45 عاماً من صفد)، وهو حلاق يعمل في مخيم شاتيلا. بالنسبة إلى فارس، «تبين الوثائق الأمور المعيبة التي تحصل في المفاوضات، وتؤذي الشعب الفلسطيني، وتثبت أنها بلا جدوى». لا جدوى إلا في «انتفاضة تلي انتفاضة، وفي وحدة الفلسطينيين».
في برج البراجنة يتوقف احمد عبدالله (28 سنة من صفد) عند توقيت النشر الذي حصل «إثر الخلاف الذي نشب بين أبو مازن وبين محمد دحلان الذي كان مسؤول الأمن الوقائي في غزة، وعضو اللجنة المركزية في فتح». يطالب عبدالله بلجنة تحقيق فلسطينية تحدد المسؤوليات وتدقق في الحقائق، نافياً ان يكون نشر الوثائق قد ترك أثراً بين أبناء المخيم يتعدى تحريك النقاشات.
وبالنسبة لأحمد «لم يعتقد الفلسطينيون يوماً أن المفاوضات ستعيدهم إلى أراضيهم، وحدها المقاومة تعيدهم، والمقاومة ليست حماس بالضرورة، فالفصائل كلها ضد التسوية بما فيها أبناء فتح، وليس الموقف الرسمي للحركة».
وفي برج البراجنة، يفضل احمد أبو إبراهيم (60 عاماً من الجليل الأعلى) أن يتابع «التغيير في مصر» عبر الشاشة الصغيرة، على الحديث عن المفاوضات «غير المهمة « برأيه: «لن تعيدنا إلى أرضنا إلا المقاومة، ولا أهمية لأي وثائق سواء نشرت أم لم تنشر».
في دكانه لبيع الدخان في مخيم شاتيلا يخوض أبو وسام (46 عاماً من الجليل الأعلى) نقاشاً مع أصدقائه حول الوثائق لمجرد فتح موضوعها. صديق من فتح وآخر من جبهة التحرير والثالث ترك الجبهة الشعبية قبل 25 سنة، ولكل منهم موقفه. الفتحاوي يصف «الجزيرة» بـ«الخونة والمتآمرين على القضية» وينفعل ويترك المحل. ابن الجبهة الشعبية يقول عن «الفتحاوي» انه يحب حركته على طريقة «القبيلة»، يعني بغض النظر عن الأخطاء والممارسة ليطلب «أن نعذر توصيفاته وانفعاله».
بالنسبة لـ أبو وسام «الوثائق لن تقدم أو تؤخر لأن الشعب الفلسطيني قدم ويقدم قوافل شهداء لن تتوقف مع توقف محمود عباس عن المقاومة». فالشعب الفلسطيني كبير و«المسؤولون صغار، اصغر من أن يكونوا بحجم شعبهم، وهؤلاء المسؤولون هم من كل الفصائل، وليس من فتح وحدها».
يصف إبراهيم برقجي (44 عاماً من كويكات قضاء عكا) نفسه بـ«المستقل»، ليقول «إن زمرة أبو مازن تخلوا عن الشعب الفلسطيني في الشتات، وعن القدس قبل المفاوضات وليس بالأمس». لا يستبعد إبراهيم ان تكون السلطة قد وافقت على نقل الفلسطيني من الشتات إلى الأرجنتين، كما اقترحت رايس: «المهم إبعادنا عن فلسطين، وهذا يشمل أبناء فتح هنا كما حماس كما فصائل المنظمة والتحالف كلهم، فعلى ماذا نتجادل ونتخاصم»، وفق إبراهيم.
ترك محمد قدورة (58 سنة من الكابري، قضاء عكا) فتح قبل عشرين عاماً «عندما خرجت عن توبها». ما قالته الجزيرة بالنسبة إلى قدورة هو اقل مما يعرفه الفلسطينيون «فالإسرائيليون خلقوا السلطة لخدمة أهدافهم، فلماذا نستغرب أي شيء».
يقول قدورة أن مناصري فتح وحماس والفصائل الأخرى يجلسون معاً حول التلفزيون ويشاهدون ما يكشف من وثائق «نحن نسهر كأصدقاء معاً، على ماذا نتجادل، نحن نتناقش وقد نختلف بحدة بالنقاش طبعاً». بالنسبة إليه السؤال الأساسي هو «هل يجد فلسطينيو الشتات ما يطعمونه لأولادهم حتى يختلفوا فعلياً؟».
يرغب محمد بالإضاءة على ما تفعله المنظمات الدولية في المخيمات «هي تنفذ مشاريع بتمويل أجنبي حول التربية على السلام وقبول الآخر وضد العنف، وتركز على الأجيال الصغيرة». يفسر قدورة هذه البرامج بمحاولة لنزع الميل الفطري للمقاومة عند الفلسطينيين تحت ذريعة المدنية، «فلماذا لا يعلّمون الإسرائيليين على السلام».
في مخيم مار الياس تؤكد خولة (38 سنة من عكا) أنها ستؤلف حزبها «الخاص»، بعدما كفرت بكل الفصائل الفلسطينية. تسأل خولة باسم من يفاوض أبو عباس؟ ومن يعرف من الشعب أي شيء عن المفاوضات التي تخاض باسمه؟. تنعي خولة المقاومة «يعني حماس فاتت بالسلطة وانتهت لأن المقاومة بتبقى مقاومة وما بتصير سلطة».
وتسأل خولة عما فعلته المفاوضات منذ ما قبل أوسلو وحتى اليوم «نعم لقد سجلت أعلى نسبة بناء للإستيطان وتوسع المستوطنات».
وتشترك، بالنسبة لخولة، «الفصائل كلها في ما يفعل أبو عباس، وإلا لماذا يسكتون عنه؟». هي تتأمل بالتغيير الذي بدأ يهب على الدول العربية ولكنها تخشى «من امركته، يعني يمكن الأميركان خلصوا من الأنظمة الحالية، وسيغيرونها وفقاً لمصالحهم».
التغيير كما في تونس «وإنشاء الله في مصر» يحلم به أبو طارق (60 عاماً من صفد) «ولكن على أي ارض، هل نثور في لبنان لنغير أبو مازن»، وهل نريد أسبابا إضافية ليكرهنا اللبنانيون أكثر؟ عليهم أن يغيروه هناك في الضفة».
يصدق أبو طارق ما تبثه الجزيرة، يقول انه يكفر بكل الفصائل، هو الذي ترك حزبه منذ العام 1995 «لمن صارت الأمور شوربا». ساءت أمور فلسطين بعدما مات كل «كبارها، ولم يبق إلا الصغار».
ومن أمام شاشة الجزيرة يؤكد أبو طارق أن أحداً لا يختلف مع احد جدياً في مخيم مار الياس أو شاتيلا أو برج البراجنة «نحن كلنا عارفين انو الكلاب باعونا».
من برج البراجنة إلى شاتيلا فمار الياس يتسمر فلسطينيو المخيمات أمام شاشات التلفزة، وبالتحديد على من يتابع من بينها التطورات في مصر «تركونا على الأقل نحلم، تخيلي أن تعود مصر إلى المعسكر العربي في الصراع مع إسرائيل؟»، يقول أبو طارق، فيرد محمد قدورة كمن يوقظه من حلمه «ليش سلطتك بعدها بالمعسكر بالأول؟».

» لبنانيون يروون حياتهم وتفاصيل إقامتهم في مخيمات بيروت الفلسطينية
» الجذور التاريخية لكارثة التهجير كما تنشر الوثائق
» تماربن للعين لمن يمضي وقت طويل امام شاشة الحاسوب
» رابين سرق الاف الوثائق السرية وابتز بها اسرائيل
» الصحف البريطانية : الوثائق الفلسطينية أخطر من وعد بلفور