الوضع الفلسطيني في المتغير الإستراتيجي الإقليمي
الكاتب : خالد عبد القادر أحمد
تشهد منطقة الشرق الأوسط أنظار العالم لما يحدث بها من متغيرات تحت مظلة حالة عدم استقرار أنظمتها القومية التي حدثت بسبب موجة الانتفاضات الشعبية, الأمر الذي منح الأقطاب الاستعمارية العالمية حرية اكبر للعمل على تنفيذ مشاريعها السياسية بها. وفي مقدمة ذلك مشروع الشرق أوسط الجديد الذي ترتكز صورته إلى تغيير محاوره التقليدية, مختلطة الولاء والوفاء إلى محاور يقتصر ولائها للولايات المتحدة الأمريكية,
إن المرحلة الراهنة من هذه المشاريع السياسية الاستعمارية تعالج بصورة رئيسية وضع الأنظمة القومية جمهورية النظام في المنطقة, وهي أنظمة وان كانت تعاني أشكالاً من الحكم الديكتاتوري, إلا أنها تبقى أنظمة قومية متقدمة نوعيا خطوة على الأنظمة الأخرى الأوتوقراطية الملكية الوراثية, فتوجه هذه الأنظمة الأيديولوجي وتركيبة مؤسسة الحكم فيها وان تداخل معها عامل الأسرة الحاكمة إلا أنها في النهاية مؤسسة من الناحية الرئيسية على تحالف اجتماعي طبقي بيروقراطي قومي يجمع في نهجه السياسي بين عامل الأمن القومي وعامل الطموح الطبقي, فجوهر صيغة ائتلافها المسيطر على الحكم أنه ائتلاف عسكري مدني, مع تفاوت أحجام هذين العاملين لكل نظام عن الآخر,حيث يغلب المدني على العسكري كما في تونس بن علي أو يتعادل تقريبا كما في مصر حسني مبارك أو يميل لصالح العسكري كما في ليبيا القذافي ويمن صالح وسوريا الأسد, تبعا لموقعها في الجيوسياسية العالمية وصراعاتها. ومقدار تكيفها مع موازين القوى العالمية فيها.
لذلك لم يكن غريبا أن نجد موقفاً مشتركاً من الترحيب الاستعماري ـ المستغرب ـ بهذه الانتفاضات الشعبية, وإن تفاوت مستوى ترحيب كل قطب استعماري من كل بعينها على حدة, وبالتالي كيفية تعامله معها, ألا أن الترحيب يبقى هو الطابع المشترك العام لمواقفها جميعا, فهذه القوى والأقطاب الاستعمارية تحسست مبكراً أن ـ الجنوح الليبرالي الواسع ـ لهذه الانتفاضات يتلاقى إلى أوسع مدى مع المشاريع السياسية الاستعمارية, ويسهل بصورة أكبر تحقيق هذه المشاريع السياسية والطموحات الاستعمارية الغربية الروح خاصة الأمريكية, وضد الطموحات الاستعمارية للأقطاب ذات الروح الآسيوي, حيث تصب اتجاهات هذه الانتفاضات عملياً نحو إضعاف روح الممانعة والمقاومة القومية في النظام السياسي, ويحمله على الانفتاح أكثر عالمياً.
إن عرضنا السابق يقدم صورة إدراك سياسي للمسار والنتائج الإستراتيجية الذي سينتهي إليه حركة المجتمعات القومية وانتفاضاتها, ولا يعني ذلك بأي شكل انتقاد ـ النوايا الطيبة ـ التي تعتمل في طموحات الطبقات الشعبية المنتفضة, خاصة شريحة الشباب من المجتمع والتي بادرت إلى تفجير الانتفاضات, وهو ما يدعونا إلى تأييدها, ولكنه أيضاً يستدعي منا عدم إغفال خلوها من منظور الأفق النظري السياسي الإستراتيجي المطلوب توافره في عملية التغير الثوري, فغياب هذا المنظور يجعل منها مجالاً فوضوياً يتقاطع فيه كل الاتجاهات الثقافية السياسية الاجتماعية بما فيها التقدمي والرجعي والعقائدي والليبرالي, مما يحيل مصيرها إلى حالة احتمالات متعددة, يملك تقرير ثبات أي منها القوى السياسية الأكثر قدرة على توظيفها. لذلك لا يفترض منا تأييدها إغفال أنها تقدم لأقطاب الاستعمار العالمي فرصة إعادة ترتيب التشكيل السياسي الإقليمي وإعادة نظم مسارات تفاعله السياسي في الصراع العالمي؟
إن التغير النوعي الرئيسي الذي يمكن تحسسه مباشرة من نتائج هذه الانتفاضات هو أنها بلورت بصورة حاسمة محاور سياسية رئيسية جديدة في النفوذ الإقليمي يتقاسمه الكيان الصهيوني شرق المتوسط وائتلاف دول مجلس التعاون في الخليج, وهي محاور يخدم وجودها وتفوقها بصورة رئيسية مصالح ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية من بين أقطاب الصراع العالمي, فهذه المحاور الإقليمية تدور حركتها في إطار النفوذ الأمريكي, لسبب طبيعة الكيان الصهيوني الاستعمارية من جهة ولسبب تشابك رساميلها الخليجية مع الرأسمال العالمي وبصورة خاصة الأمريكي من جهة أخرى, وعلى العكس من النوايا الطيبة للانتفاضات, فهي تخدم تفكيك وحدة المحور السياسي الممانع للنفوذ الأمريكي في المنطقة, وتهيئ لتسارع وتائر ضرب مركزه الرئيسي إيران.
إن الوعي السياسي اللازم والقادر على مواجهة القدرة السياسية الاستعمارية خاصة الأمريكي, لا يتجلى فقط بتحديد موقف سليم من الحدث والطرف والتصريح في الواقعة السياسية كما تفعل بعض المواقف الثقافية السياسية, بل يتجلى في رؤية إلى أين تنتهي استراتيجيا حركة التي تنتجها في الواقع كلها, وتبعا لمثل هذه القراءة يجب تحديد موقف تأييد أو رفض الحدث والطرف والتصريح على أساس درء المخاطر الإستراتيجية.
إن مجالاً من مجالات تفوق القوة الاستعمارية هو قدرتها على إدارة الصراع والذي يعني قدرتها على توظيف جمعي لمجالات وأطراف التناقض, خلال تعاملها المباشر مع الوقائع الآنية, لذلك لا نجده غريبا أن الانتفاضات الشعبية سرعت جهد القوى الاستعمارية الإستراتجي السابق في تحرير مجالات صراع متعددة في مجتمعات المنطقة, فخدمتها جيدا في ذلك,
فهذه الانتفاضات الشعبية حررت أطراف وقضايا وصراعات طائفية وطبقية وقومية, كان مسيطراً عليها نسبياً من قبل, لنجد المنطقة الآن منقسمة أفقيا بين سنة وشيعة وإسلام ومسيحية, كذلك لنجدها منقسمة عرقياً بين عربي وغير عربي, أما عمودياً فهي في كل موقع على حدة منقسمة بين اتجاه اجتماعي شعبي واتجاه مؤسسة حكم مسيطرة, وتبعا لذلك تتعامل مجمل الأقطاب الاستعمارية في المنطقة ولكن تحت مظلة تفوق نفوذ وإمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية في مختلف المجالات. التي باتت تتلاعب مع الصيغة السياسية للمنطقة وتعيد تشكيلها بحسب مصالحها الخاصة,
فعلى الصعيد الناطق باللغة العربية نجد أن الولايات المتحدة تعمل على تعزيز دور دول مجلس التعاون الخليجي فخلقت منها محور نفوذ سياسي ذي إمكانيات مالية ضخمة يعزز انتظام ونفوذ حركته السياسية تحالفه غير المشروط مع الولايات المتحدة الأمريكية وبات ذلك ينعكس في صورة تدخل مجلس التعاون الخليجي في كل الصراعات في المنطقة وفي المقدمة منها العمل على تصعيد التوتر مع إيران وحصارها والتهيئة لضربها والمشاركة فيه, وتفكيك معسكر ممانعة النفوذ الأمريكي بالمنطقة والعمل على قبول الكيان الصهيوني فيها, والذي وإن تجلى سابقاً في صورة ما يسمى بالمبادرة العربية, فإن هذه المبادرة بفعل متغير صيغة التشكيل السياسي الإقليمي قد تجاوز الزمن صيغتها القديمة أو بعض جوانبها على الأقل وسيتم تعديلها أو طرح بديل لها يسقط من حساباتها وجود عامل محور الممانعة.
إن الملامح السابقة تجعلنا نتحسس أن الحالة الإقليمية تتجه بالوضع الفلسطيني نحو شروط أسوأ مما هي عليه الآن, لان تعزز الاستفراد الأمريكي بالمنطقة سيضع أساسا أقوى لاستفراد أمريكي بمسار التسوية, وان هذه حقيقة تختفي الآن تحت سطح حماسة الحراك الشعبي, وهي حالة استثنائية طارئة طابعها انتقالي, ولا تعبر بصورة صحيحة عن ما سيستقر إليه المسار السياسي الراسخ للأنظمة الإقليمية بعد تجاوز الاستثنائي المؤقت, فلا شك أن اختفاء محور الممانعة سيحسن شروط المناورة الأمريكية الصهيونية في التسوية خاصة أن القطب الخليجي مستعد لانجاز تسوية يتقاسم فيها مع الكيان الصهيوني النفوذ ـ الإقليمي ـ في المنطقة والمعروف أن الفاتورة الفلسطينية ستدفع ثمن تكلفته,
إن الأمل الوحيد أمام المجتمع الفلسطيني لتجاوز هذا الخطر هو في السير بالاتجاه المعاكس, وهو اتجاه تعزيز محتوى الاستقلال والسيادة الفلسطينية والعمل على توظيف كامل الحجم الجيوقومي الفلسطيني وتعزيز وحدته ومركزيته ورفض الاستفراد به من خلال الانخراط في المهمة الوطنية. وتنويع مسارات ومجالات وأساليب ووسائل الصراع,
لذلك فعلى فصائل محور منظمة التحرير الفلسطينية نفض أوهامها العرقية حول العمق والتضامن العربي, وبنفس القدر على محور تحالف حركة حماس نفض أوهامها حول العمق والتضامن الاسلامي, وارتكازها جميعا لمركزية وطنية فلسطينية مستقلة القرار والمناورة.