الجماهير تصنع المعجزات بغتة وتقلب الموازين، غير أن المستفيد من احتجاجات جماهيرية؛ إما شعب أو مستعمر..
هناك فرق بين ثورة برعاية نخب وطنية في المجتمع وأخرى يفجرها الغضب وتقودها العشوائية وتستمد تصاعدها من اتساع الفوضى، فالأولى تبني وطناً والثانية قد تمزق أوطاناً بحالها، لهذا جاء تحذير الخبراء الساسة من انفلات
الشارع عن السلطة ووجهها الآخر في النخب، ثقافية كانت أو سياسية أو مدنية..
فماذا لو خرج الشارع العربي في كل الدول يهتف في ثورته ضد البطالة ويهاجم أنظمة مستبدة مزقت الأمة وينشد في ثورته حلاً واحداً فقط لمشاكل الوطن العربي والتي لن تحل إلا بوحدة عربية؟ .. ماذا لو خلط الشارع بين
مشاكل الأقطار الداخلية وضياع الثقافة القومية وبالتالي الهوية العربية والأمن القومي والدفاع العربي المشترك..؟
الترحيب الغربي بالثورة "البوعزعزية" في تونس أمر يثير القلق، يبدو أنها وإن كانت عفوية الاحتجاجات صادقة المطالب والاتجاهات، قد كشفت عن خيار تتطلع إليه السياسة الاستعمارية كبديل ملائم ووسيلة فضلى لتنفيذ
أجندتها في المنطقة دون خسارة، ولا أدل على ذلك من واشنطن التي دفعت ثمناً باهظاً في العراق لإسقاط أحد الأنظمة العربية ومازالت غارقة في هذا المستنقع، فيما تم سقوط النظام بتونس بسهولة وبلا خسارة تذكر..
لا أخفيكم أمراً أن الحماس نحو المساهمة في قشع الظلم والفساد قد أخذنا كلنا، لكن لابد أن يتم في الحسبان مراعاة الهدف الأعمق، والسياسة مالم تكن ذو هدف طويل المدى لصالح الشعوب تموت قبل تنفيذ مشروع واحد من
مشاريعها..
فالولايات المتحدة الأميركية على مدى التاريخ موجودة في الشيء وضده، فهي مع الرحمة وضدها حتى تبلغ غايتها، ومع اللعنة ونقيضها لأجل أهدافها، كما هو حالها مع الديمقراطية والحرية والتشدد والعولمة والعلمنة والملعنة في
حمايتها لحقوق الإنسان والمهمشين وهي التي تقتل الإنسانية بالمجان وتطالب حلفائها من المساكين العرب بحمايتها وعدم انتهاك حرمتها..
فأميركا دعمت قديماً ما تسميه بالإرهاب اليوم وهاهي تحاربه في أوطاننا بعد أن اختارت المنطقة العربية ساحة لمعركتها مع صنيعتها "القاعدة"، وليس بغريب على دولة كأميركا صانعة العلمانية أن تحارب رموزها في المنطقة
والذين هم صنيعتها أيضاً، كما تحارب القاعدة اليوم تحت مزاعم أنها أشغلت بالها بانتشار مخفي لا تدركه أبصار ساستها، حيث تتطلع لصعود الفكر المتشدد كما تسميه إلى سدة الحكم، لتتمكن منهم، معتقدة أنه لدى تحملهم مسؤولياتهم
أمام الشعوب، ستظفر بمزيد من الإذعان ومع تصاعد الأزمات في شتى المجالات، يصير حال الزعيم العربي في كل نائبة، يرمي عقاله أو رديفه أمام واشنطن وأخواتها "جاه الله عليكم، "أنا في وجوهكم"، اتركوني وشأني،
فالوضع يزلزل البلاد، و"الشعب ضابح يا جماعة"..
فواشنطن هي من أعطت الضوء الأخضر للرئيس العراقي السابق صدام حسين بغزو الكويت وهي نفسها من قادته إلى حبل المشنقة، واحتلت العراق لتضع بلاد الرافدين تحت عبثها وسياستها الاستعمارية، وأميركا طرحت قديماً
على الساسة العرب محاربة الشيوعية في المنطقة وفي ولاية كوبا الأميركية لتخرج منتصرة على رقعة الشطرنج العربية بعد أن حركت حلفائها بنقلات ذكية، لتبدو أمامها مربعاتنا خالية بعد تعري البحر عن الساسة العرب في لحظة
هزيمة ليجدوا حيتانهم تموت في العراء... فأميركا ليس لديها ما تخسره، فجيشها ضد الشيوعية من العرب والدعم عربي والمعركة تدار بريموت كنترول أميركي، بينما الساسة العرب اضطروا للانسحاب من كوبا ، كون أية
مقاومة لا تجدي نفعاً بقدر ما ستدمر كل قوتهم الضخمة التي سحبوها معهم.. فأميركا في أفغانستان والعرب في كوبا معادلة تبدو متساوية في لعبة قذرة النصر فيها للأدهى، وأميركا لم تعد العدة لها حتى يكون هناك شيء تخسره،
فكل مقومات المعركة عربية لكنها تدار أميركياً..
لقد استطاعت هزيمة نقيضتها في المنطقة بسواعدنا وألغت التدافع من الخارطة.
إذا كان الشارع العربي قد قرر التحرك، فعلينا أن ننشد حلاً لمشاكلنا في شتى الأقطار وذلك بوحدة عربية، حيث لا أزمة في بلد قوي، التقدم حليفه غالباً، بدليل سكون البلدان العظمى ورقيها.. هناك تكون الاحتجاجات ضربة
للأنظمة القائمة وصفعة لأميركا على قفاها.. والخيار الآخر إذا ما أراد الشباب ثورة داخل البلدان أن يقودوا معركة سلمية ضد البطالة والفساد والاستبداد وللمطالبة بالحرية والتداول السلمي للسلطة وذلك برعاية نخب وطنية،
ولعل الحاكم والمعارضة في الوطن العربي ككل يتحملون على حد سواء انسلاخ الشارع عن النخب في المجتمع، كون ذلك نتاج ازدياد المماحكات المستمرة واتساع الهوة بين القادة في السلطة ووجهها الآخر المعارض.
فالاحتجاجات التي قد تمهد لشرق أوسط جديد تتطلع إليه أميركا لتحيك المنطقة على مقاسها وسياستها المعادية، بما يلبي مطامعها.. ما أريد قوله هنا أن الشعوب أصبح حالها كـ"الغورلا" في قفص، تصيبها الوخزات من كل
جهة.. فإذا بها تنفجر في لحظة من اللحظات، لتكسر القيود وتخرج لتأكل الأخضر واليابس وتلك هي الفوضى الخلاقة بعينها، التي يسيل لها لعاب الغرب وتفتح لهم الشهية.. وهنا "يلعن أبوها ثورة".
بسمة زرارة